بلكون قصة قصيرة لوداد طه
بلكون
قصة قصيرة
أحضرتْ كرسيًّا، وجلستْ بصمتٍ في ذلك المغيب. بردٌ لذيذٌ، وبعضُ أفكارٍ تتشّكل غيومًا في ذهنها، لم تخرج منذ مدّة. يبدو أنّ بقاءها وقتًا طويلًا في العمل ينسيها أن تخرج من غرفتها حين تعود إلى البيت، على الرغم من أنّها تبقى في المكتب.
بدا الشارع مختلفًا نوعًا ما. ارتشفتْ من السائل البنّيّ السّاخن رشفةً، وهي تتطلّع إلى حركة أجسادٍ على الجانب الآخر من الشارع. من خلف الأشجار التي خفّف الخريفُ أوراقها، كانت أجسادٌ بأحجامٍ مختلفةٍ تتحرّك: تخرج وتدخل من بوّابةٍ حديديّةٍ عريضة، هي بوّابة العمارة المقابلة لبيتها الأرضيّ.
صوتُ أولادٍ شدّها إلى ما يحصل في البيت المقابل. وما تبقّى من النهار كفل لها أن تميِّز خياليْن صغيريْن يلعبان. أرجعتْ كرسيَّها، وأحنت رأسَها، كي يتسنّى لها أن ترى من خلال الشبك ذي المربّعات الصغيرة الذي يحوّط البيت، وتتعرّش عليه ياسمينةٌ مجنونةٌ تحجب عنها الرؤيةَ.
مرّت دقائقُ والولدان يخرجان ويدخلان من البيت وإليه، أحدُهما يسبق الآخرَ بخطواتٍ صغيرة. لم يسبق لها أن رأت أحدًا في ذلك البيت من قبل؛ لا بدّ أنّ جيرانًا جددًا سكنوا فيه. آنسها الضوءُ الخفيف المنبعث من شباكٍ خلفيّ. فجأةً، إذا بشخصٍ يقف عند باب البيت المقابل، وكأنّه خرج من العدم. تقوقعتْ في مكانها كقطّةٍ تبحث عن دفء. شعرتْ أنّه يراها. كانت العتمة قد غطّت العالم، لكنّها رأته يلوّح لها من خلف الأغصان الصغيرة والضّوء المنبعث.
اعتدلتْ في جلستها، وتشبّثتْ بكوبها. أخذ النُّورُ، الذي آنسها منذ قليل، يخيفها. أرادت أن تقوم من مكانها، لكنّ يده امتدّت إلى ذراعها وأبقتها مكانها. سقط الكوبُ من يدها. لم تعد تميّز الحقيقة من الخيال. الرجل يقف خلف الشبّاك، ينظر إليها بعينيه الحادّتيْن، ولكنّ يدَه تلتفّ حول معصمها كحيّة. فنجانُها مهشّمٌ يسيل دمُه، ولكنّه بين يديها: تنظر فيه إلى الفراغ الأبيض، المشوب بالأنفاس وأحمرِ الشِّفاه ونهاياتِ القهوة.
حاولت النهوضَ من جديدٍ، لكنّ قبضته سلبتها خيارها. سألت نفسها ما الذي يجري؟ فإذا بصوته يأتي كموجٍ هادرٍ وبعيد: “تغييرٌ طفيف…”
ـــ تغييرُ ماذا؟ مَن أنت؟
ـــ القدر.
ـــ مَن؟
ـــ أنا قدرُك.
ـــ وماذا تريد منّي؟
ـــ لم أعد أريد شيئًا. كنت أقفُ هناك منذ زمنٍ خلف النّور وأنظر إليكِ وأنتظر أن تلمحيني.
ـــ لكنّك مازلت تقف هناك وأنا أراك، فكيف تمسك بيدي؟ أتركني!
ـــ أجل أقف؛ فأنتِ مَن أتى إليّ.
ـــ ماذا تعني؟
ـــ أعني أنّك ميتةٌ يا عزيزتي سمر.
ـــ ميتة؟ أنا؟! كيف؟
راحت تتلمّس جسدَها وتفرك عينيْها بسرعة. وحين تأكّدتْ أنّ كلَّ ما فيها سليم، حاولتْ أن تتفلّت من يده وهي تقول: “أتركني لستُ ميتةً وأنت لستَ شيئًا. قد أحتاج استشارةَ طبيبِ عيون، إذ أتخيّل وقوفك هناك وأشعر بيدك تحاصرني. أتركْني لو سمحت.”
ـــ قلتُ لكِ إنّه تغييرٌ طفيف. وهذا الشعور بي هناك وهنا ليس إلّا إحدى القوى التي يمتلكها مَن يدخل خلف النُّور. لقد متِّ يا سمر منذ دقائق وأنت تحتسين قهوتك. غدًا، لن يكون عليك أن تستيقظي صباحًا وتتوجّهي إلى عملٍ لا تحبّينه. ستكونين حرّةً من الوقت والتاريخ والدَّوَران في حلقات الآخرين وتساؤلاتك المفرغة عنك وعنهم. غدًا، يمكنك أن تسيري في يومٍ مشمسٍ طويل، وأن تنحني للزّهْر على الطُّرق، وأن تمشي بلا هدف، ولساعاتٍ، من دون تعبٍ أو تأخير. هنا الأبد.
ـــ لم أشعر بذلك، قالت سمر غيرَ مصدِّقة. كان وخزًا لذيذًا. سرحتُ مع الطفليْن وهما يتراكضان، وفجأةً رأيتني معهما أركض نحو الشبّاك المنير. ثمّ رأيتكَ كأنّك معلّقٌ هنا، بالباب، منذ آلاف السّنين، ووجدتُ الطفلين يجمعان من الحديقة الصغيرة خلف الدار حفناتٍ من تراب، فجمعتُ لك حفنةً راحت تتناقص وأنا أسير إليك. كنتُ ألبس ثوبي الزيتيّ المخمليّ، الذي جلبتْه أمّي لي في العيد. مددتَ يدي نحوك في التراب المتبقّي، فانهال منه من كفيّ. خفت أن يكون الصبيّان قد جمعا لك أكثر منّي، لكنّهما اختفيا فجأةً، فنسيتُهما. ووجدتك وحدك في الباب أمام النّور. وحين ناولتُكَ حفنتي، كانت راحتُك ملأى بالنّجوم، فرأيتُ نجماتي معلّقة في كفّك. كنت قد نسيت أنّ لي نجماتٍ علّقتها في السماء وأنا صغيرة. كنّ ثلاثَ نجمات يشكّلن خطًّا مستقيمًا لا يمتدّ؛ فهو قصيرٌ ولكنّه لا ينتهي. خفتُ أن أهيل التراب على النّجوم فتنمحي. لكنّك حثثْتَني برفقٍ، وأنت تهزّ رأسك المغطّى بوشاح الليل. فوضعتُ حبّات التّراب في كفّك، فنبتتْ شجرةٌ خضراء عالية. وفي أعلى الشجرة نبتتْ ثلاثُ نجمات. ثمّ شعرتُ بجوعٍ غريبٍ، فقلتَ “كُلي نجمة!” وحين تناولتُ نجمةً شعرتُ أنّني أراك من فوق. فلماذا تتركني معلّقةً هنا؟
ـــ حين أكلتِ النّجمةَ صرتِ سماء. قلتُ لك تغييرٌ طفيف، تعديلٌ في المزاج، خلطٌ للممكن والمستحيل، تحرّرٌ من الذّات وإعادةُ صياغة. أنتِ هنا كلّ التناقضات معًا، ولستِ أيًّا منها في الوقت ذاته. يمكنكِ أن تسقطي بلا موت، وأن ترتفعي من دون رياء، وأنت في مكانك، وأن تقومي بلا نهاية، وأن تكوني من دون هدف، متخفّفةً من الأحلام والخوف، تسافرين بلا انقطاع ولا حركة. لقد رأيتُكِ خلال سنين من خلف الشبّاك الصّغير في البيت المقابل، ولم تريني يومًا؛ كنتِ منهمكةً وتعبةً وخرافيّةَ الطموحات والخذلان. لقد سرتِ طويلًا، لكنّكِ لم تَصِلي…
ـــ أيّها القدر، أتعتقد أنّني اخترتُكَ؟
ابتسم الرجل الساكت من خلف الشّبّاك المنير، وهو يرخي يدَه ويتركها تتلاشى بعيدًا مع دخان قهوتها. انتبهتْ إلى النور يضاء فوق رأسها على البلكون، فرأت بوضوحٍ طفليْن يحملان قطع الأثاث الصغيرة ويقدّمانها إلى أمّهما، التي وقفتْ خلف الشبّاك الوطيء وتناولتْ منهما القطع بحذر.
“إنهم جيرانٌ جدُد سكنوا الأسبوع الفائت وما زالوا ينقلون عفش بيتهم على ما يبدو،” قالت أمُّها وهي تلملم قطعَ الزّجاج التي تهشّمتْ وتمازجتْ بالقهوة حين وقع كوب القهوة من يدها وهي تنظر إلى الشّبّاك المنير في الشارع المقابل.