رأيتُ جثث الموتى وأكملتُ طريقي!
صدى وادي التيم-متفرقات/
تُعدّ جبال الهيمالايا بوجه عام، وجبل إيفرست بشكل خاصّ، محطة اهتمام تاريخيّة للمغامرين الرياضيين الذين يسعون لتحدّي قدراتهم الجسديّة والعقليّة. ومن قلب بيروت إلى أعالي الجبال على وجه الكرة الأرضيّة، تجاوز جورج أبو رجيلي (27 عاماً) حدود الجغرافيا والمناخ والطبيعة، ليَرفع اسم لبنان عالياً، في رحلة “شاقة” اختار خوض غمارها، وكان النجاح من نصيبه!
“كانت رحلة حافلة بالمخاطر، لن أنساها طيلة حياتي”، إنّها الكلمات الأولى التي عبّر بها جورج عن مغامرته “الطويلة والصعبة” قبل بلوغ قمة إيفرست، أعلى نقطة على سطح الأرض، إلى جانب فريق صغير من عشّاق الرياضة مؤلف من 8 أشخاص، كُتب لإثنين منهم فقط قَدَر الوصول، وهما جورج وصديقه الآخر الذي يُعاني من إصابات جسديّة عدّة نُقل على إثرها إلى المستشفى، حيث لا يزال يتلقّى العلاجات اللازمة من قبل الاختصاصيين.
بدأت الحكاية في عام 2014، عندما انتقل الشاب اللبنانيّ للعيش في كندا، حيث تدني درجات الحرارة وصعوبة التنقلات لا تسمحان بالقيام بالكثير من الأنشطة الخارجية، فما كان منه سوى التوجّه نحو ممارسة رياضة التسلّق كمنفسٍ جذبه لتنمية قدراته وبناء ذاته.
وبعد أن كان حلمه في تسلّق جبل إيفرست خامداً لأعوام بسبب التكاليف الماديّة المرتفعة التي تتطلبها هذه المغامرة، اشتعل حبّه مجدّداً مع نهاية الـ2021. وبعد تخرّجه من الجامعة مباشرة، بدأ بالعمل لساعات طويلة ليتمكن من جمع النقود اللازمة لتحقيق حلمه. “كنت أحلم باللحظة التي أصل فيها إلى القمة سالماً، ولكن ما حصل معي لم أتوقعه، إذْ رأيت جثثاً عدّة بعيني مرميّة على أطراف الجبل لأشخاص مجهولين، حتّى أن الحبل الذي كنت أستعمله في البداية كان قديماً بعض الشيء، فانقطع بي أثناء التسلق ممّا أدّى إلى سقوطي فوق جثة أحدهم، وهذا كان من أكثر المواقف بشاعة التي واجهتني، لا سيّما وأنّه أكثر من 12 شخصاً ماتوا خلال هذا الموسم فقط أثناء رحلتهم، وللأسف بسبب وعورة الطرقات وسوء الأحوال الجويّة لم تتمكن فرق الإنقاذ من مساعدتهم، وبطبيعة الحال المتسلقين أيضاً، لأنّنا نسابق الوقت والطبيعة في هذه المغامرة وكلّنا معرّضين لمواجهة خطر الموت بأيّ لحظة”، يُخبرنا جورج.
من الخوف من المجهول، مروراً بالتسمّم الغذائيّ وبعدها إصابته بفيروس كورونا، اختبر الشاب اللبنانيّ مخاطر عدّة لم تُثنه عن رغبته الكبيرة بالوصول إلى القمة، فبعد أكثر من سنتين من التدريب المكثف، وبعد إنفاق مبالغ ماليّة كبيرة تصل قيمتها إلى الـ30 ألف دولار، لم يكن خيار التراجع وارداً أساساً لديه، فحمِلَ أمتعته ومضى في طريقه بجسد منهك، في ظلّ ظروف طبيعيّة مترديّة مفاجئة طرأت.
“عادةً ما نحتاج إلى فترة شهر أو شهرين كحدّ أقصى لتسلّق القمة، وطبعاً يسبقها تسلّق جبال عدّة تمهيداً لنا كرياضيين للتعرّف إلى طبيعة الجبال والتقلبات المناخيّة واختبار المعوّقات التي قد نواجهها في رحلتنا. شخصياً، استغرقتني الرحلة نحو 37 يوماً، خلالها تمكنت من تسلّق جبلين آخرين مع فريق صغير من الهواة أيضاً. وبطبيعة الحال، حاولت قدر الإمكان توفير بعض التكاليف، فاخترت التعامل مع إحدى المجموعات التي طلبت مني مبلغاً معقولاً مقارنةً بالأرقام الخياليّة التي يدفعها الآخرون والتي تتخطّى الـ160 ألف دولار، إلّا أن الطعام لم يكن بالمستوى المتوقع، ولكن هذا لم يُشكّل عائقاً بالنسبة لي، إذ استبدلته بشرب المياه والشاي المثلج لأبقي جسمي رطباً لأن الحرارة كانت قرابة -40 تحت الصفر، وبسبب نقص الأوكسيجين كنت أشعر بصعوبة كبيرة في التحرّك و التنفس أحياناً”، يقول جورج مستذكراً أصعب اللحظات التي واجهته بينما كان يحاول البقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة دون استعمال ماكينة الأوكسيجين التي بحوزته تحسباً لأيّ طارئ قد يتعرّض له من جهة، ولارتفاع تكلفة صيانتها في حال تعطلت من جهة أخرى.
واجه جورج مشاكل صحيّة عدّة خلال رحلته، إذ إنه أُصيب بالتهاب الشعب الهوائية ما سبّب له سعالاً مؤلماً. ومع ذلك، يؤكّد الشاب في حديثه على أنّه “تمتع بالكثير من الطاقة في اليوم الذي توجه فيه إلى القمة، حيث مرّ شريط حياته أمام عينيه”، مستعيداً أصغر تفاصيل التدريبات التي كان يقوم بها مثل “الركض أسبوعياً من بيته في جونيه باتجاه حريصا، إضافة إلى رياضة السباحة لمسافات طويلة التي مارسها خلال السنوات الأخيرة”.
وفي رسالته إلى الشباب اللبنانيّ، أكّد جورج أنّه “بإمكان أيّ شخص أن يصل إلى أي مكان يريده، ولكن المهم ألّا نقسوا على أنفسنا خلال المغامرة وأن نتفهم طبيعة الجبال التي نتسلقها، كما طبيعة جسدنا كي لا نصل إلى نقطة نعجز بها عن التنفس أو مواصلة مسيرتنا. والأهم من كلّ ذلك، ألّا نذهب بمفردنا ونستعين بفريق متدربّ من المنطقة من أجل سلامتنا”.
تحمل قصة هذا الشاب اللبنانيّ الرحالة معاني عميقة ودروساً قيّمة. من خلال تحدٍ كبير ورغبة حقيقية في تحقيق أحلامه، أثبت جورج أن الإرادة القويّة والإصرار الصلب يمكنهما تحقيق المستحيل، وأن الشباب اللبنانيّ لو مهما اشتدّت الظروف عليه قادر على اجتيازها وبلوغ القمم العاليّة… ولو بعد حين!