صابون زيت الزيتون… عودة إلى التراث في لبنان

صدى وادي التيم-تاريخ وتراث/

يجلس غازي أبو حمد (أبو جريس) الذي يعيش في قرية القليعة (قضاء مرجعيون في محافظة النبطية، جنوبي لبنان) على كرسي خشبي وإلى جانبه قطع من الصابون البلدي المعطّر بزيت ورق الغار. يقوم بتشذيبها وحفّها بالسكين لتأخذ شكلها المربع النهائي. وإلى جانب الغرفة خزان كبير فوق موقد الغاز، يحوي القطروني وزيت الزيتون والماء. يخلطها وتحريكها بين الحين والآخر. ورث مهنة صنع الصابون عن الأهل والأجداد، وما زال يحافظ عليها وعلى وسائلها التقليدية على الرغم من أنه تجاوز السبعين من العمر.

عسل الشنديب نتاج بيئة فريدة في لبنان (العربي الجديد)
قضايا وناس
عسل الشنديب… درّة تاج جبل الشيخ بين لبنان وسورية
لبنان الذي يشتهر بزيت الزيتون فيه العديد من خانات (ورش) الصابون البلدي بأشكال وألوان مختلفة، جلّه يُصدّر إلى الخارج. إلا أن الكثير من اللبنانيين، وبسبب الضائقة المادية، باتوا يسعون إلى صنعه بالوسائل التقليدية في القرى والأرياف، وذلك للاستخدام الخاص أو لتحويلها إلى مهنة يترزّق منها.
ويعود تاريخ الزيتون وزيت الزيتون في لبنان وبلاد الشام والعديد من دول حوض البحر المتوسط لأكثر من ثلاثة آلاف عام، وإلى جانبهما الصابون البلدي المصنّع من زيت الزيتون. وعلى الرغم من اقتصار استخدامه خلال العقود الماضية على مزارعي الزيتون وبعض العارفين بفوائده الصحية، إلاّ أنه عاد ليأخذ مكانه الحقيقي بين الناس بسبب الظروف الاقتصادية والمادية الصعبة التي يرزح تحتها اللبنانيون. ويستغني البعض عن المنظفات وخصوصاً الصابون الصناعي الذي يحتوي على الكثير من المركبات الكيميائية. وبات مَنْ يملك الزيتون يُقدِمُ على ترك قسم من زيته لصنع الصابون البلدي.

نسبة الرطوبة في الصابونة مهمة جداً ويجب أن تكون محددة (العربي الجديد)
نسبة الرطوبة في الصابونة مهمة جداً ويجب أن تكون محددة (العربي الجديد)
ويقول المهندس المتخصّص في البتروكيماويات مهدي عمّار، المتحدر من محافظة النبطية (جنوب لبنان): “ليس هناك تاريخ واضح، لكنّ صناعة الصابون تعود إلى ما لا يقل عن ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد مع السومريين والبابليين. ولبنان إحدى دول حوض البحر المتوسط المعروفة بوفرة أشجار الزيتون، كما زيت النخيل المتوفر في كولومبيا وإندونيسيا وأفريقيا، ويعرف بالزيت الأحمر”.

صناعته بين التقليد والعلم
خلف منزل أبو جريس غرفة مجهّزة بأدوات المونة البلدية. وتجذب الزائر رائحة الصابون المعطّر بالغار واللافاندر والخزامى وماء الورد. يقول: “أحد الأصدقاء لديه فائض من زيت الزيتون، فطلب مني أن أصنع له منه الصابون كونه لا يعرف الطريقة، ويثق بطريقتي في صنعه”. ولتحضير الصابون البلدي، يشرح أنّ “كلّ كيلوغرام من الزيت يحتاج إلى أوقية من القطروني وكيلوغرام من الماء. وعند غليه على النار، نقوم بتصفية ماء القطروني عبر حنفية أسفل الخزان، ثم نضع الخليط في قوالب من الخشب أو المعدن، وهذه الطريقة توارثناها عن الأهل والأجداد”.
بدورها، تصنع أم شادي قمرة، وهي من بلدة كفرشوبا الواقعة في منطقة العرقوب (قضاء حاصبيا في النبطية)، الصابون البلدي دورياً، وتقدّم النصائح للجيران والأصدقاء حول الطريقة الأفضل والأنجح لصنعه والاستفادة منه في حماية البشرة. وتشير إلى أنّ “صنع الصابون البلدي يحتاج إلى زيت الزيتون والقطروني والمياه فقط”.

خلال تشذيب الصابون (العربي الجديد)
خلال تشذيب الصابون (العربي الجديد)
وقد تكون النتيجة واحدة في صنع الصابون البلدي لمن ورثوا الحرفة عن آبائهم وأجدادهم، إلّا أنّ للعلم كلمته. ويؤكد عمّار أن “الصابون عبارة عن تفاعل بين مادة حمضية دسمة وأخرى قلوية، وزيت الزيتون عبارة عن غليسيرول وأحماض دهنية تشكل مادة واحدة هي الدسم. واسم الصابون كلمة لاتينية وتعني صابو أو صابونين وهي موجودة في كافة اللغات تقريباً”. يتابع أنّ “الصابونين مادة تستخرج من جذور نبات العصلج. فإذا سحقت جذوره ونقعت في المياه تكونت رغوة، ويستعمل نقيعها في غسل الملابس. في العصور الغابرة، كانوا يخلطون رماد الأخشاب والأعشاب بالزيت (فالرماد يحتوي على الكربونات) وكانوا يأخذون رائقه، عبارة عن محلول القطرونة، ويخلطونه مع الزيت مع التسخين والتحريك فيحصلون على مادة جيلاتين استعملوها للالتهابات الجلدية ومادة تنظيف في المنازل، ولم تتقدم صناعة الصابون تقدماً ملموساً إلّا بعد انتشار القطرونة الصناعية”.
يضيف: “هناك طريقتان لصنع الصابون: الطريقة الساخنة والطريقة الباردة. الطريقة الساخنة مكلفة نسبياً لناحية الطاقة المستهلكة. أما الطريقة الباردة فتحافظ أكثر على الغليسيرين الذي يحفظ جودة الصابون الصحية، وتتم عملية التصبين في جهاز يسمى الحلة، وتكون عادة مصنوعة من صفائح من الحديد الخالية من الصدأ (لأن الصدأ يفسد الصابون) وتستبعد أوعية الألمينيوم أو الأوعية المطلية بالقصدير لأنها تتتفاعل مع القلوي”.

يسعى كثيرون إلى صنع الصابون بالوسائل التقليدية (العربي الجديد)
يسعى كثيرون إلى صنع الصابون بالوسائل التقليدية (العربي الجديد)

يتابع عمّار: “تنتقل المواد الدسمة إلى الحلة وتسخن حتى الدرجة 100، ثم يضاف محلول الصودا الكاوي على دفعات تحفظ درجة حرارة التفاعل بشكل مستمر مع التحريك المستمر، وتكون المواد في حالة فقاعات ليّنة. فإذا كانت التراكيز من المادة الدسمة والماء والقطرونة متوازنة وصحيحة، تكون متماسكة وتشكل مستحلباً متجانساً. وبعدما يسير التفاعل بضع خطوات، تضاف كميات أقوى من الصودا الكاوية الأكثر تركيزاً، وباستمرار الغليان والتحريك تستغرق عملية التصبين حوالي 12 ساعة إلى 24 ساعة”.
ويرى عمّار أن “نسبة الرطوبة في الصابونة مهمة جداً ويجب أن تكون محددة. إذ أن بعض الدول تعتمد نسبة الرطوبة 16 في المائة. وفي حال كانت أكثر معنى ذلك أنك تبيع المستهلك ماء. وهنا دور الدولة في الرقابة والمحاسبة، بمعنى أن سعر الصابون في هذا الحال يتغير، ويحسم من ثمنه نسبة الرطوبة أو الماء الموجود. لذلك، يجب وضع الصابون بعد صنعه ثلاثة أشهر بعيداً عن الشمس حتى تجف منه الرطوبة إلى أقصى حد ممكن”.

الصابون البلدي مهم ومفيد للبشرة (العربي الجديد)
الصابون البلدي مفيد للبشرة (العربي الجديد)
معطّرات
ويؤكد عمّار أن “صابون زيت الزيتون لا يتقبّل كلّ أنواع العطور، ويفضّل العطور الطبيعية، وهي عبارة عن زيوت مثل الخزامى (lavender) الذي يعطيه رائحة رائعة. وأيضاً زيت الغار الذي يزيد صابون زيت الزيتون جمالاً وهو سهل التصبّن، ما يضيف للصابون اللون الأخضر ورائحة يعشقها أبناء البحر المتوسط. على سبيل المثال، الصابون النابلسي في فلسطين المصنّع من زيت الزيتون وزيت الغار وله سرّ في كل بيت”. يتابع أن “إضافة زيت النخيل أيضاً تزيد من الرغوة وتماسك قطعة الصابون. مع ذلك، تبقى مواصفات زيت الزيتون قائمة”.
ويشير عمّار إلى أن “زيت الزيتون سهل الامتصاص على الجلد، ما يؤدي إلى استخدامه في علاجات كثيرة. وهناك كثير من الأدوية لعلاج الجلد والبشرة فيها نسبة من زيت الزيتون، من قبيل أدوية الإكزيما والصدفية. فما بالك بالصابون الذي يرطب البشرة ويفتح المسامات ويعالج نسبياً تساقط الشعر؟”.

اللبنانيون على درب المجهول (حسام شبارو/ الأناضول)
قضايا وناس
توق لبناني إلى استعادة الحياة في 2023
وتتحدث منتهى عطوي، وهي من بلدة الهبارية (في حاصبيا)، عن خبرتها في صنع الصابون البلدي قائلة: “الصابون البلدي مهم ومفيد لعلاج حَبّ الشباب”. كما أنه يفتح مسامات البشرة ولا سيما لدى الأطفال. ويمكن تخزين مياه القطروني المتبقية عن الصابون بعد صنعه لاستخدامها في تنظيف المجاري الصحية وغسل غالونات زيت الزيتون بسهولة ونظافة أكيدة”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى