الدروز يلملمون صراعات الهيئة الروحيّة… تخوّفٌ وغموض
صدى وادي التيم-لبنانيات/
أكثر من أسبوع مرّ على الخلافات التي استعرت في الهيئة الروحية الدرزية، عقب إلباس الشيخ أبي صالح محمد العنداري العمامة المكولسة للشيخ أبي فايز أمين مكارم، وتسجيل الشيخ أبي يوسف أمين الصايغ (آخر من تُوّج بهذه العمامة) موقفاً اعتراضياً تجاه ما سمّاه مزج السياسة بالدين، حتى إنّه نزع عمامته المكولسة ثمّ أعاد ارتداءها نزولاً عند رغبة محبّيه في المجتمع الدرزي.
هدأت البيانات والتصاريح والمواقف، لكن لم تهدأ النفوس بعد، والمعالجة مستمرّة لإنهاء الخلاف من جذوره، ولتلافي أيّة خلافات مشابهة في المستقبل، علماً أنّ هذا الانقسام يعتبر سابقة في تاريخ إلباس هذه العمامة للمشايخ الأعيان في طائفة الموحّدين الدروز، الذي تمّ إلباس فيه هذه العمامة لِما يقارب 20 شيخاً خلال المئة عام الماضية.
من يحاول ضرب المرجعيّات الروحيّة؟
يعلّق رئيس حزب التوحيد العربي وئام وهّاب على ما حصل في حديث لـ”أساس”، مؤكّداً أنّ جميع السياسيين الدروز يجب أن لا يتدخّلوا بهذا الملفّ “لأنّه متعلّق بمشايخنا، ومشايخنا أعتقد أنّهم أعقل منّا ولديهم إدراك أكبر ممّا لدينا، ويعرفون مصلحة الدروز أكثر منّا، وهم من يجب أن يعالجوا هذا الأمر ويتداركوه”.
وعن العمامة المكولسة يقول وهّاب: “اللفّة المكولسة تقليد عمره مئات السنين ويجب أن يستمرّ، وهذا أمر لدينا اتجاهه ارتباط عاطفي وروحي.. هذه اللفّة لبسها رجال عظام مثل الشيخ بو حسن عارف ومثل الشيخ بوحسيب الصايغ والكثير من مشايخنا الأجلّاء، ويجب أن تبقى تقليداً، وبرأيي أنّ كثُراً يستحقّون اليوم أن يُتوّجوا بها”.
لا يخفي وهّاب تخوّفه من أن يكون ما يحصل ضرباً للمرجعيّات الروحية وإفساحاً في المجال لمجموعات “قد يكون لها دور آخر غير الموضوع الروحي أو الديني وغير ما يخصّ مصلحة الطائفة. فالمرجعيات الروحية تحفظ مصلحة الطائفة، وأمّا هذه المجموعات فتحفظ مصالحها، وهنا الخطر”، تماماً كما يحصل في السويداء. وانطلاقاً من هذا التخوّف يدعو وهّاب إلى استكمال المعالجة التي بدأت، “فالشيخ أبو يوسف أمين الصايغ أحد مراجعنا الكبار، والشيخ أبو صالح محمد العنداري مرجع كبير، لا يمكننا المزايدة عليهم أو أن نعطيهم دروساً، فهم أعقل منّا بكثير وقادرون على أن يعالجوا الأمر، وهناك الكثير من المرجعيات الروحية التي لم تدخل في هذه الصراعات مثل الجاهلية وحاصبيا ومرجعيات أخرى قادرة على أن تلعب دوراً كبيراً في المعالجة الجدّية والجذرية لتلافي أيّ خلافات من هذا النوع في المستقبل… فهم أحكم من أن يختلفوا”.
اعتكاف اشتراكيّ عن التعليق
أمّا الحزب التقدّمي الاشتراكي فقد علم “أساس” أنّه اتّخذ قراره بعدم التعليق سياسياً على الموضوع، وتؤكّد مصادره أنّ هذا الموضوع بعيد كلّ البعد عن السياسة، وأنّ هذه التدابير والقرارات تُتّخذ على مستوى رجال
الدين بعيداً عن الحسابات السياسية بالمطلق، ويجري ترتيبها فيما بينهم. وتمنّت المصادر أن تكون الأمور ذاهبة باتجاه الهدوء.
وردّاً على ما نُشر عن تدخّل سياسي بالهيئة الروحية الدرزية، وتحديداً عن تدخّل اشتراكي، تقول المصادر: “لا ندري لماذا يحاولون إقحام القيادة السياسية في هذا الأمر، وصدقاً إنّنا بعيدون كلّ البعد عن هذا الموضوع”، مؤكّدةً أنّ العمل جارٍ على ترتيب الأوضاع وفق الأصول “مع الأخذ بعين الاعتبار وحدة الموقف والكلمة لهذه الشريحة الوطنية التي تلعب دوراً مهمّاً في الحياة السياسية في لبنان، ولعبت دوراً مهمّاً في تاريخ الوطن”.
مبادرة شيخ العقل نصر الدين الغريب
بدورها تؤكّد مصادر الحزب الديمقراطي اللبناني أنّها على موقفها الثابت الداعي إلى وحدة الصفّ والتعايش والشراكة في الوطن، وتضيف: “إذا كنّا على الرغم من كلّ الاختلافات بالسياسة ندعو إلى وحدة الصفّ والانفتاح والحوار، فكيف عندما يتعلّق الموضوع بالدين وبوحدة الصفّ الدرزي، فالموضوع الديني لدينا مقدّس وأعلى من الأمور التفصيلية والصغائر وزواريب السياسة”. وفي ما يتعلّق بالخلاف الأخير تعلّق المصادر نفسها في حديث لـ”أساس”: “ما حصل نعتبره إن شاء الله غيمة سوداء، والأكيد أنّ الأمور ستتّجه دائماً نحو الخير والحلحلة، بحيث لا يكون تأزّم أو تكرار لتصرّفات كهذه تزيد من الشرخ والانقسام”، مؤكّدةً أنّ القيادة السياسية في الحزب الديمقراطي على تنسيق مع الجميع، “وموقف شيخ عقل طائفة الموحّدين الشيخ نصر الدين الغريب يمثّلنا ويمثّل خطّنا”، وقد كان لديه مسعى جدّي للمعالجة تمثّل بالمبادرة التي أطلقها يوم الجمعة الماضي عقب زيارته للمرجع الروحي أمين الصايغ والمرجع الروحي أبي صالح محمد العنداري.
ما هي العمامة المكولسة وما أهميّتها التاريخية؟
العمامة المكولسة أو المكوّرة هي عمامة أسطوانية الشكل يُتوّج بها عدد قليل من المشايخ الدروز، وتختلف عن العمامة العاديّة المكوّنة من طربوش أحمر تحيط به لفّة بيضاء، والتي يعتمرها عدد كبير من رجال الدين الدروز بعد تعلّمهم المسلك التوحيدي. وعن تاريخ هذه العمامة وأهميّتها، يتحدّث الأمين العامّ لمؤسّسة الفكر التوحيدي المعاصر للحوار والأبحاث الدكتور غسان أبو دياب، ويروي قصة هذا “السمْت الديني” الذي حافظ على مقامه وأهميّته مع مرور الزمن.
العمامة المكولسة أو المكوّرة، كما يروي أبو دياب لـ”أساس”، ليس معروفاً على وجه الدقّة مرجعها في التاريخ وجذورها التاريخية، لكنّ التاريخ المدوّن أو المعاصر يشير إلى أنّه في عشرينيّات القرن العشرين كان أوّل المعروفين ممّن اعتمروها هو الشيخ سعيد العقيلي، علماً أنّه لم يلبسها من تلقاء نفسه، بل هناك من ألبسه إيّاها، لكن غير معروف. وهي عمامة تشبه عمامة الأمير السيّد جمال الدين عبدالله التنوخي أكبر المجدّدين في مذهب التوحيد قبل 300 عام، لكنّ الفارق الأساسي بينهما أنّ لون العمامة التي كان يعتمرها التنوخي هو الأخضر (لون أهل البيت).
أمّا القاسم المشترك بين هؤلاء الشيوخ جميعهم فهو الإجماع المجتمعي الدرزي على تقوى ورفعة هؤلاء الشيوخ، فالعمامة المكولسة هي سمت ديني يُلبِسُها لغيره من لبِسَها، وهي بمنزلة تكريم وتوقير واعتراف الناس بأنّ هذا الشيخ قد بلغ رتبة دينية وعلمية معيّنة، وفيها نوع من التكريم لعمله وعلمه في الإطار الديني، واستمر هذا التقليد مع مرور الزمن.
في وقتنا الحالي يرتدي شيخان العمامة المكولسة، قبل إلباسها للشيخ مكارم، وهما الشيخ أمين الصايغ والشيخ أبو صالح محمد العنداري. وقد قَبِل الأخير بارتداء العمامة لفترة وجيزة تواضعاً وتعفّفاً منه لأنّه لا يريد أن يميّز نفسه عن أحد، على حدّ قوله. وقد ألبسه إيّاها الشيخ سليمان حسيب الصايغ الذي توفّي قبل سنتين.
هل للسياسة علاقة بالعمامة المكولسة؟
يعلّق أبو دياب على الخلاف الأخير: “ما حصل أو ما يحصل فعلاً لم يُفهم تماماً في إطاره، فلم يكن أبداً الاعتراض على استحقاق الشيخ فلان أو غيره دينياً، بل جاء الاعتراض لأنّ البعض ظنّ أو وصلته معلومات مغلوطة عن تدخّل سياسيّ في هذا القرار، وطبعاً الهيئة الروحية ترغب في أن تنأى بنفسها عن التدخّلات السياسية، وخاصة في شؤونها المتعلّقة بملفّ من هذا النوع، لأنّ هذا خارج إطار الاختصاص كي لا يقع الإنكار بتفاوت المعيار، فالمعايير التي تُعتمد للملفّات السياسية هي عناوين مفهومة في إطارها الموضوعي، لكنّ هذه المعايير لا تنطبق على حالة الملفّات الدينية”، متمنّياً أن يبقى الموضوع في الإطار الديني البحت ولا يكون مادّة للسجالات السياسية، لأنّ الملفّ بمقاربته وأدبيّاته مختلف عن مقاربة ملفّ مشايخ العقل أو الملفّات السياسية.
وعن وجود تدخّلات سياسية في الهيئة الروحية، يردّ أبو دياب: “الهيئة الروحية لا تنفي ولا تؤكّد هذا التدخّل، لكن طبعاً نتمنّى أن ينأى السياسيون بأنفسهم عن التدخّل بهذا الإطار، فيكون محصوراً بالمختصّين من رجال الدين، فهذا سمت ديني موجود وسيستمرّ، والقاعدة أنّ كلّ من يلبسها سيلبسها كي لا تقف عنده، وبطبيعة الحال سنشهد إلباس عدد من المشايخ”.
على الرغم من التكتّم السياسي والمجتمعي على أساس هذا الخلاف، والغموض المسيطر على المشهد، والسير بين النقاط عند الإدلاء بأيّ تصريح عنه، يبدو أنّ السياسة قد عصفت بالهيئة الروحية الدرزية، حالها كحال المرجعيات الروحية الأخرى في لبنان وجميع الملفّات الأخرى في هذا البلد المشؤوم بلعنة السياسة. تؤكّد مصادر درزية على صلة بالملف لـ”أساس” أنّ الانقسام لم يحصل أبداً حول الأحقيّة، فالشيخ مكارم يستحقّ حكماً، لكنّ التحفّظات انطلقت من كون الشيخ مكارم هو عديل الشيخ العنداري، وقد أكمل لحيته قبل عام تقريباً (وهو تدبير روحي معيّن يقوم به الشيخ الزاهد)، وهناك الكثير من المشايخ المستحقّين أيضاً الذين لديهم تاريخ وسنوات طويلة على هذا الدرب، ويستحقّون هذا التتويج أيضاً. يشار إلى أنّ الشيخ أمين الصايغ تربطه بالحزب الاشتركي علاقة غير ودّية بسبب خلافات بينهما على ملفّ مشيخة العقل والأوقاف واعتراضه الدائم على التدخّلات السياسية بالملفّات الدينية. وتقول المصادر: حتى لو لم يكن من علاقة مباشرة للقيادة السياسية بإلباس العمامة المكولسة، فإنّ مطبخ العمامة المكولسة كان يتألّف منذ زمن من مؤسسة العرفان وشيخ العقل سامي أبو المنى وقاضي المذهب غاندي مكارم، وجميعهم لديهم ميول اشتراكية.
نهلا ناصر الدين – اساس ميديا