جديد كامل مهنا كتاب “مواجهة الاستثمار المفرط لمفهوم المجتمع المدني”
صدى وادي التيم-لبنانيات/
صدر للدكتور كامل مهنا، رئيس “مؤسسة عامل الدولية”، عن دار الفارابي في بيروت، كتاب جديد بعنوان “مواجهة الاستثمار المفرط لمفهوم المجتمع المدني.. “عامل” تجربة ديموقراطية لبناء وطن ومواطن”. مع مقدمة للوزير السابق والمفكر الدكتور جورج قرم، يرى فيها أن “الكتاب غني بالتجارب المحلية والدولية، وأن مضمونه موازٍ للنضال المتواصل الذي يخوضه الدكتور مهنا والمؤسسة التي أنشأها أي “عامل”، من أجل تثبيت تجربته الوطنية على أرض الواقع، وتكريس نموذج عمل اجتماعي إنساني، لا يقل أهمية عمّا تقدمه مؤسسات المجتمع المدني الغربية”. ومقدمة أخرى لعالم النفس والمفكر الدكتور مصطفى حجازي، يقول فيها “إن الكتاب يمثل تجسيدًا عمليًّا لفلسفة عمل المجتمع المدني ومبادئها الأساسية، وخارطة طريق واضحة المعالم، للنهوض بالعمل التنموي”. ويوضح الفرق بين المجتمعين الأهلي والمدني بشكل مفصّل.
يشكل هذا الكتاب، مع الكتب السابقة واللاحقة للدكتور مهنا، موسوعة معمّقة، حول نشوء وتطوير المجتمع المدني في لبنان، والمهمات المنوطة به، خصوصًا في ظل الظروف الصعبة التي نعيشها. ولا شك في أن هذه الموسوعة ستصبح مرجعاً أساسياً لكل من يهتم بالتعرّف والتعمق في الجذور التاريخية لهذا القطاع في لبنان، وفي موجبات مواكبته للواقع، وتطلعه نحو المستقبل.
في مؤلفه الجديد هذا يقف عند مستجدات التجربة، وما تعرّض له مفهوم المجتمع المدني من نقاشات وآراء متباينة، مستعرضًا الأفكار المتقدمة في الشرق والغرب، وداعيًا إلى تجديد مؤسسات المجتمع المدني، ودراسة مخططات العمل فيها برؤى متجددة دائمًا.
ويخص الدكتور مهنا “مؤسسة عامل” بدراسة معمقة عن تجربتها على المستوى المحلي، مشيراً إلى أن امتداد وجود هذه المؤسسة في كلٍّ من أوروبا وآسيا، يجعلها من أوائل المؤسسات الإنسانية في دول الجنوب التي تمتدّ بهذا الشكل الواسع في دول الشمال. فالدكتور مهنا حريص في العمل المدني على رفض التبعية للغرب، وعلى التعامل بندّيّة مع المنظمات الغربية.
وإذ يؤكد مهنا عدم الوقوف عند تعريف أو مفهوم أو إطار صارم للمفردات، لأن الحياة تتطور وتتطور معها المعاني والنظريات والخلاصات، والمتتبع لتطور المجتمع المدني تاريخيًّا، من العصر اليوناني حتى يومنا هذا يدرك كم تغير المجتمع المدني مع تغير السياسة والاقتصاد، وهذا يأخذنا إلى تطور لا بد منه أيضًا للعلاقة بين المجتمع المدني والدولة.
الكتاب الذي يحاول تفكيك حالة الاستهلاك الرائج لمفهوم المجتمع المدني، نتيجة لانتشار تعامل صنمي مع هذا المفهوم إلى درجة نزعت منه قدرته التفسيرية ومفعوله النقدي، يعتبر أن هذا المفهوم بالذات هو تاريخ مرتبط بالسياسة والاقتصاد وبتطور نشوء فكرة المجتمع والدولة، في مقابل آليات القسر التي تستخدمها الدولة في تثبيت سيطرتها، إذ إن هذ المجتمع المدني، بحسب مهنا، هو ساحة الصراع الحقيقية التي تنجذب إليها وتتفاعل فيها قوى التغيير، بحيث تفرز خطابًا واستراتيجية وطنيين، يهدفان إلى تحقيق المزيد من الديمقراطية، والمزيد من الضمانات لحقوق الإنسان، كما يشكل المجتمع المدني فضاء للحرية، يركز على حق الفرد والمجتمع والمواطن، ووسيلة للعبور نحو المواطنة والديموقراطية.
فقد بات المجتمع المدني، وفقاً للكاتب، يشكّل في ضوء التغيرات العالمية والتطورات على الصعيدين اللبناني والعربي، فضاءً للحرية وأداة للديمقراطية واستثمار إيدلوجي مزدوج للمفهوم من قبل الدولة ومن المنظمات المدنية، فالبعض يتحدث عن المجتمع المدني كأنه دين جديد والبعض الآخر يعتبره مستورداً من الغرب، وهو فضاء مستقل عن الدولة وفضاء لدخول الدولة في حقل المجتمع المدني من خلال إدارته من قبل أشخاص من الحكومة يتمتعون بكفاءات عالية، إلا أنه قد يشكّل أحياناً فضاء للتمسرح (إظهار القوة) ووسيلة للأبوية (شخص رئيس هيئة من 20 أو 30 سنة)، فكما اخترعنا جمهوريات وراثية وأحزاب وراثية كذلك بات لدينا جمعيات وراثية.
وينبه الدكتور مهنا إلى أن مفهوم “المجتمع المدني” استخدم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بشكل سيئ، فسادت فكرة تجميله وشيطنة الدولة. فالمجتمع المدني، برأيه، لا ينمو ويتبلور بعيدًا عن مسألة الدولة، فالتقاطع مع الدولة والتفاعل معها هو الذي يبني الفضاء العام للمجتمع، وبهذا التقاطع وذاك التفاعل تتأسس المواطنة. فلا مجتمع مدني بلا دولة، ولا وحدة وطنية من دون الفرد والمجتمع والدولة. كما يتطرق إلى استخدام بعض المثقفين العرب مفهوم المجتمع المدني بشكل مغاير لطبيعته، عندما تركوا الأحزاب والتحقوا بمنظمات المجتمع المدني، معتبرين ذلك تعويضًا عن الهزيمة التي لحقت بالتيارات القومية واليسارية. لكن حقيقة الأمر أن المجتمع المدني من دون سياسة ولا صراع من أجل الحرية والديموقراطية، يبقى بعيدًا عن الواقع وعن المعنى الحقيقي للمجتمع المدني الذي يقوم أساسًا على حالة نقدية تعتمد على فهم البنى السياسية، إلى جانب فهم البنى الاقتصادية. بل إن الأحزاب السياسية، في المجتمعات المندفعة نحو التغيير، هي من مكونات المجتمع المدني. والمجتمع العربي بأمس الحاجة إلى مفهوم المجتمع السياسي الديموقراطي، لأن ديموقراطيته لا تزال متأخرة عن الركب العالمي
ويعبر الدكتور مهنا عن خوفه من حال انفلاش تجربة المجتمع المدني، واستسهال تشكيل الجمعيات تحت شعارات براقة، سعياً وراء الارتزاق، واعتماد مبدأ تشكيل الجمعية لحل مشكلة شخص أو مجموعة من الأفراد الذين يلتقون على هدف مشترك، إن لجهة الكسب المادي، عن طريق الاعتماد على هبات أجنبية “يتصرفون” بها، أو الكسب السياسي، عن طريق الاتصال بالدول لاستدرار الدعم السياسي لمشاريع سياسية، لا تنموية ولا ديموقراطية، وقد باتت عادة مدّ اليد للخارج أقرب إلى نوع من التسول السياسي الرائج، المعتمد على صيغة التبادل الآتية: أعطني مالًا وخذ مني كل ما تريد.
ويشدد الدكتور مهنا على أهمية بناء شراكات بين مؤسسات المجتمع المدني في لبنان، خصوصاً أنه يتولى مسؤولية المنسق العام لـ”تجمع الهيئات الأهلية التطوعية في لبنان”، كما يشدد على ضرورة بناء شراكات بين منظمات المجتمع المدني في الشرق والغرب، مبنية على الندّيّة ورفض ثقافة الاستعمار الجديد، وهذا ما جعل “مؤسسة عامل” تتحول إلى جمعية دولية تنطلق من الشرق لتضيء تجربتها في الغرب، عكس السائد، فتكون رائدة على هذا المستوى، وتناضل من أجل عالم أكثر عدالة وإنسانية. وهي من أكثر الهيئات الإنسانية اللبنانية والعربية التي تواصلت مع منظمات من دول الغرب، إلا أنها نتيجة خياراتها الكفاحية، أصبحت تشكل رأس حربة في مواجهة سياسة الغرب الاستعمارية، وثقافة منظمات المجتمع المدني الغربي التي تعودت نهج الإملاءات
ويقول مهنا: لقد رفعنا دائمًا شعار “شركاء لا أوصياء”، واعتمدنا مهمة محاربة ازدواجية المعايير في العمل الإنساني. وأكدنا الالتزام بقضايا الشعوب العادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، كذلك العمل مع الفئات الشعبية، لا الاكتفاء بالحديث، في الفنادق، عن بؤسها ومعاناتها، وكذلك الالتزام بالنضال من أجل توزيع عادل للثروات، داخل كل بلد وعلى مستوى العالم. وتابع مهنا: إن مسألة توزيع الثروة، مع تفاقم الهوة بين الشمال والجنوب، ومشكلات الفقر والتهميش، باتت الظاهرات الأكثر انتشارًا وخطورة في العالم
ويحذر من تنامي مشاعر الانتماء الطائفي والقبلي والعشائري على حساب الانتماء القومي في الوطن العربي، داعيًا إلى هدم هذه الحصون بمعول الديمقراطية التي يمكنها أن تمهد لبناء اجتماعي جديد، لا يستقيم إلا بالتفكير في المستقبل والحوار حوله، إذ إن جوهر مفهوم النهضة هو استعداد المجتمع للتجدد الذاتي، واستنفار قدراته، من أجل مستقبل أفضل. وداعيًا أيضًا إلى تطوير مفاهيم الديمقراطية في مؤسسات العمل المدني، فتكون هي القدوة والمحرك في المجتمع، إرساءً لمبادئ المشاركة والاعتراف بالآخر، ولمفاهيم المواطنة في الحقوق والواجبات. على أن الحقوق الأساسية للمواطن هي حقوق نابعة من إنسانية الإنسان، وهي لا تتنافى مع تقوية الدولة، لكن الدولة العادلة الناظمة لعلاقات المجتمع والوازنة لقواه، بل إن الوصول إليها يقتضي ردم الهوة بين المجتمع والدولة ومصالحتهما، بحيث تكون الدولة في خدمة المجتمع ويتمثل المجتمع في الدولة.
ويشير مهنا إلى أنه في المجتمعات الساعية إلى الدمقرطة، تكون الأحزاب أو تنظيم الناس الطوعي، واتحادهم لهدف سياسي متعلق بنظام الدولة، جزءاً أساسياً من المجتمع المدني. وإن إقامة أحزاب سياسية ذات طابع وطني عام هو تحد كبير يواجه قوى التغيير التي تعمل على حسم مسألة الديمقراطية.
ويقدم مهنا مقترحات عدة لتفعيل دور المجتمع المدني، منها:
– اعتماد رؤية شاملة ومحفزة للتنمية، فقد بات شعار “فكّر عالميًّا ونفذ محليًّا” بمثابة الوصية الأولى من وصايا التنمية المستدامة.
– القيام في بناء إجماع وطني وقومي حول فلسفة التنمية الشاملة في البلاد العربية، عبر صوغ عقد اجتماعي جديد بين الحكومة والقطاع الخاص والقطاع المدني، في إطار شراكة ثلاثية، بهدف تعبئة أفضل لقدرات المجتمع.
– اعتبار منظمات المجتمع المدني شريكًا أساسيًّا مع الحكومة، على قاعدة الحوار والتشاور والتنسيق والتعاون، وعدم وقوع هذه المنظمات في الفخ المنصوب لها، فلا تأخذ دور الدولة في المجال الخدماتي، عبر القيام بالدور المفترض أن تقوم به الأخيرة.
– مشاركة المرأة والشباب في العمل الانمائي والدفاعي كمدخل للتنمية المتكاملة.
– التوجه نحو تدبير مصادر التمويل الذاتي، لتوفير أكبر قدر من الاستقلالية لمنظمات المجتمع المدني عن الهيئات المانحة، وإيجاد آلية لضمان الشفافية والمساءلة المتبادلة المحلية، وتعزيز الثقة بمصادر تمويل هذه الهيئات، وعدم الوقوع بين مخالب التمويل المشبوه.
ويختم، مطالبًا بنى المجتمع المدني في لبنان بالمشاركة في مواجهة الواقع المرير الذي يعيشه لبنان، بخاصة بعد 17 تشرين الأول 2019، والبحث عن رؤية عقلانية لمواجهة الخطر المستطير على بنيته ووجوده، بدل الندب والاحتماء بمتاريس الطوائف، فلبنان في حاجة إلى التغيير على كل صعيد، ولمنظمات المجتمع المدني دور أساسي في بناء المواطن – الإنسان، والتخلص من مسلسل طويل من الفكر السلبي الإحباطي المدمِّر، ومن التعوّد على الطاعة والسلطات المتعددة، من المنزل إلى المجتمع، لذا فإن خطة الإنقاذ ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار تخليص المجتمع اللبناني من ثقافة القمع والفكر السلبي.
ويذكّر مهنا بأن مؤسسات المجتمع المدني تصب جهودها الأساسية على “الإصلاح من تحت”، لكي يصبح هذا الإصلاح عاملاً ضاغطاً من أجل “التغيير من فوق”.