كارثة كبيرة قادمة إن لم نتحرك… عن نتائج الإفراط في أخذ المضادات الحيوية ومقاومة البكتيريا
رغم الثورة العلميّة الهائلة التي تولّدت عن اكتشاف المضادات الحيوية على مدار القرون السابقة والحاضرة، وما أحدثته من تغييرٍ جذري في مسار الطب والبشرية، التي أنقذت الملايين من الناس في مواجهة الآلاف من الميكروبات والأوبئة الفتّاكة، نصل اليوم إلى مفترق طرقٍ خطر يهدّد بأزمة حقيقيّة ستنقلب بها البكتيريا على البشرية مقاومةً جميع أسلحة العلم، كاشفةً نقاط ضعفه المستورة.
حذّر الأطباء والعلماء منذ فترة طويلة من خطورة تطوير البكتيريا مقاومةً مكتسبة على المضادات الحيوية، نتيجة الاستخدام العشوائي لها والمتزامن مع قلّة الوعي البشري وسيره بكامل إرادته نحو فنائه المرتقب. مع تصاعد موجة كورونا الراهنة وتخبّط البروتوكولات العلاجيّة التي تارةً ما نراها تعتمد على المضادات الحيوية في مضمونها، وتارةً أخرى تتبرّأ من وصفها، تتسارع حدّة الوتيرة التي يهوي بها العالم نحو نهايته المجهولة.
مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية
تحدث المقاومة للمضادات الحيوية عندما تطوّر الجراثيم مثل البكتيريا والفطريات القدرة على هزيمة الأدوية المصمّمة لقتلها، بالتالي لن تموت الجراثيم بل ستستمر في النمو وتطوير آلياتها الدفاعية. قد تظهر مقاومة المضادات الحيوية بشكلٍ طبيعي عند أيّ شخص مهما كان عمره وأيًّا كان بلد إقامته، لكنّ إساءة استخدامها ستؤدّي إلى تسريع ظهور المقاومة وحالات التعنيد على العلاج.
جائحة كورونا تفاقم أزمة مقاومة البكتيريا
إنّ العبء المترتب على المستشفيات التي يهيمن عليها COVID-19 بسبب الحاجة إلى المساحات الكافية التي تحقّق التباعد الاجتماعي، وخصوصية عزل المرضى المصابين COVID-19، مع نقص الموظفين والممرضين الراغبين بالعمل خلال الجائحة، جميع هذه العوامل دفعت عجلة التحوّل إلى العلاج بالمضادات الحيوية للمرضى الخارجيين لفترات طويلة، لينعكس الاستخدام المتزايد بغير وعي إلى انخفاض القدرة في التحكّم بمسار العدوى البكتيرية.
بمجرّد أن يصبح COVID-19 تحت السيطرة سيواجه الأطباء والعلماء والمستشفيات أزمةً أكثر تعقيدًا تحتاج عقودًا من الزمن لإزالة تداعياتها، بدءًا من ارتفاع التكاليف الطبية مرورًا بالإقامة المطوّلة بين أروقة المشافي وصولًا إلى تصاعد منحنى الوفيات والعجز عن إيقافه.
تحذيرات متصاعدة تطلقها منظمة الصحة العالمية
رغم أنّ العدوى البكتيرية غير شائعة بين مرضى COVID-19، شهدت شركات الأدوية ارتفاعًا غير مسبوق في الإنتاج والطلب على المضادات الحيوية، ليصل منحنى الاستهلاك إلى أرقام مضاعفة مخيفة، رغم عدم توافر أدلةٍ كافية تدعم ما نراه اليوم من استخدامٍ واسع النطاق للمضادات الحيوية التجريبية على مرضى COVID-19.
حذرت منظمة الصحة العالمية (WHO) من أنّ الاستخدام المتزايد للمضادات الحيوية لمكافحة جائحة كوفيد-19، سيعزّز المقاومة البكتيرية ويؤدّي في النهاية إلى المزيد من الوفيات خلال الأزمة الحالية وما بعدها. إذ أعلنت بداية وقوف العالم على أعتاب أزمة قادمة تهدّد الصحة العالمية والأمن الغذائي والتنمية، وتتوعد البشرية بخطرٍ يفوق تداعيات جائحة كورونا.
مع التنويه إلى خطورة الوضع في بعض البلدان، كدول العالم الثالث ذات الدخل المنخفض، التي سجّلت أعلى استهلاكٍ للمضادات الحيوية في ظلّ انهيار الأنظمة الطبية وغياب الوعي المجتمعي بخطورة ما ستحمله السنين القادمة من معاناة وموت أليم. يبقى السؤال الأهم “لماذا لا يتمّ تقييد عمليات شراء المضادات الحيوية في دول العالم الثالث، بدلًا من السماح باستخدامها بشكل عشوائي دون رقابة؟”.
اتّساع نطاق أزمة مقاومة البكتيريا يفوق الاحتمالات
ما نشهده اليوم من تزايد المقاومة للمضادات الحيوية إلى مستويات عالية بشكل شديد الخَطَر في جميع أنحاء العالم، من خلال ظهور آليات مقاومة جديدة تتخطّى حدود الزمان والمكان، سيهدّد قدرتنا على علاج العديد من الأمراض المعدية الشائعة. إذ ستخلق قائمة العدوى المتزايدة بالالتهابات الرئوية، والسل، وغيرها الكثير من الأمراض المنقولة عن طريق الطعام والجنس والهواء معضلةً علاجية محيّرة أقرب إلى المستحيل.
حين يصبح شراء المضادات الحيوية بغرض الاستخدام البشري أو الحيواني من دون وصفة طبية رسمية، أمرًا روتينيًا كتناول أقراص المسكنات بلا حسيب أو رقيب يكترث لأزمة مستقبلية تهدّد كامل أبناء جنسه، سيكون قد فات الأوان على انتشار المقاومة وفتكها.
دون اتخاذ إجراءات عاجلة وصارمة، سنتّجه نحو عصر ما بعد المضادات الحيوية، حيث ستعاد سيناريوهات الأمراض المشؤومة على مرّ التاريخ مرّة أخرى، لكن هذه المرّة سيبقى مصير النهاية مفتوحًا للعناية الإلهية أمام عجز العلماء وانهيار الأنظمة والتجهيزات الطبيّة.
كيفيّة السيطرة على المشكلة والحدّ من تفاقمها
مع تسارع وتيرة مقاومة البكتيريا، فضلًا عن ضعف الوقاية من العدوى وتخبّط نظم المناعة البشرية، لا بدّ من اتّخاذ خطوات عمليّة على جميع مستويات المجتمع للحدّ من تأثير المقاومة وانتشارها، من خلال ما يلي:
- التقيّد الصارم باستخدام المضادات الحيوية فقط عندما يتمّ وصفها من قبل أخصّائي معتمد.
- اتّباع تعليمات طبيبك الخاصّ عند استخدام المضادات الحيوية، وعدم تناولها العشوائي وفق أهوائك.
- الوقاية من العدوى عن طريق غسل اليدين بانتظام، وإعداد الطعام بطريقة صحية، وتجنب التماس الوثيق مع المرضى المصابين، وممارسة الجنس الآمن، بالإضافة إلى الحصول على التطعيمات المحدّثة.
- يتوجب على خبراء الرعاية الصحية الإبلاغ عن حالات العدوى المقاومة للمضادات الحيوية إلى فرق المراقبة الدوائية.
حقائق يجب أخدها بعين الاعتبار
عندما يتعذّر علاج العدوى بالمضادات الحيوية من الخط الأول، سيضطر الطبيب إلى وصف أدوية ذات فعالية أقوى وبالتالي أكثر تكلفة. كما أنّ طول فترة المرض والعلاج والبقاء في المستشفيات، سيزيد من تكاليف الرعاية الصحية وكذلك العبء الاقتصادي على الأسر والمجتمعات. كما لن يقتصر التهديد على الناحية المالية بل سينعكس سلبًا على كافّة الميادين العلميّة والطبية، إذ ستقيّد مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية الكثير من إنجازات الطب الحديث مثل عمليات زرع الأعضاء والعلاج الكيميائي والعمليات الجراحية مثل الولادة القيصرية، التي ستكون أكثر خطورة بكثير من دون مضادات حيوية فعّالة في العلاج والوقاية من تداعيات العدوى التالية لجميع العمليات.
في حين أنّ هناك بعض المضادات الحيوية الجديدة قيد التطوير والتحديث، لكن من غير المتوقّع أن يكون أيٌّ منها فعّالًا ضدّ أخطر أشكال البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، نظرًا لسهولة انتشارها وعبورها لمختلف البلدان.
تطرح مقاومة المضادات الحيوية مشكلةً عالميّة تتطلّب تضافر الجهود المبذولة من جميع الدول والقطاعات. ما يحتاجه العالم بشكل عاجل هو تغيير الطريقة التي يصف بها المضادات الحيوية ويستخدمها، فحتى لو تمّ تطوير أدوية جديدة، ستبقى مقاومة البكتيريا تشكّل تهديدًا وجوديًا طالما لم يتم تغيير السلوك والمنهج المتبع في التعامل معها.
اراجيك