سابرينا فواز مهندسة ميكانيكية من لبنان تروي تجربتها في أفغانستان
صدى وادي التيم- لبنانيات/
عندما اخترت مهنتي “مهندسة ميكانيكية”، توقّعت أن تواجهني الكثير من الصعوبات لكوني امرأة في هذا المجال، خصوصاً في العالم العربي. أمّا ما لم أكن أتوقّعه أبداً فهو أنني سأعمل يوماً ما في أفغانستان؛ هذا البلد الذي كنا نسمع عنه في نشرات الأخبار، ونقرأ عنه في الصحف.
قبل الذهاب إلى أفغانستان لخوض مهمّتي الإنسانية مع منظمة “أطباء بلا حدود”، كنت خائفة جداً بسبب الحرب الدائرة هناك، وبسبب كلّ ما نسمعه عن الأحداث الأمنية في البلد. قبل الانطلاق بأيّ مهمّة عمل مع أطباء بلا حدود نتعلّم كيفية التعاطي مع المجتمع المضيف، والأولوية هي لاحترام العادات والتقاليد التي تميّز كل بلد عن غيره.
وبعد ذلك، قرّرت المجازفة والمغامرة والبدء بمشوار جديد لتحقيق شغفي الإنساني هناك.
بدأت مهمتي مع منظمة أطباء بلا حدود في ١١ شباط \فبراير ٢٠٢١ في مدينة قندوز إحدى المحافظات الـ 34 في أفغانستان، والتي تقع في شمال البلاد.
مدينة قندوز مميّزة، وأهلها طيّبون جداً. النساء هناك يرتدين الحجاب من الرأس إلى أخمص القدمين في الأماكن العامة. فور وصولي إلى تلك المدينة بدأتُ رحلة ممتعة. ذهبت مع زميلتي الأفغانية التي تعرف جيداً أحياء قندوز وأزقّتها. زيارتنا الأولى كانت إلى سوق الأقمشة، حيث اخترنا الأقمشة والألوان، لم تكن مهمة اختيار الأقمشة سهلةً، إذ كانت المرة الأولى في حياتي التي أتجول فيها في داخل سوق تضمُّ مئات الأنواع والألوان. وبعد نهار طويل اخترت بعض الأقمشة. مهمّة الزيّ لم تنته هنا. بعد رحلة البحث عن الأقمشة، توجّهت عند خياطة الحيّ التي لم تسألني أيّ سؤال. أحضرت ماسورتها، أخذت مقاييس جسمي، ولم تتحدّث معي بتاتاً بل مع زميلتي بلغتهما “الداري”. بعد أسبوع، جاءت زميلتي ووضعت الثياب في غرفتي. يومها، وضعت ملابسي التي جلبتها معي من لبنان في حقيبة السّفر، وبدأ مشواري بثياب ملوّنة جميلة، وزيّ أفغانيّ لطيف، وحجاب جعلني أنتمي إلى هذا المجتمع.
بصفتي مهندسة ميكانيكية كنتُ مسؤولة عن عملية التكييف والتدفئة والتهوية في المستشفى الذي تديرهُ “أطباء بلا حدود” في تلك المنطقة. هذا المستشفى الذي دمّرته الغارات الجوية الأميركية في 3 تشرين الأول 2015، في ليلة مرعبة لا تُنسى. الجميع هنا في قندوز يصفون هذه اللحظة بأنها واحدةٌ من أصعب اللحظات في تاريخ عملهم. في 3 تشرين الأوّل 2015، تسبّبت تلك الضربات الجويّة بمقتل 42 شخصاً وبتدمير مستشفى الإصابات. كنت كلّما سمعت قصصاً عن الحادثة أتساءل عن كيفية توفير رعاية طبية بطريقة آمنة عند خطوط الجبهات؟
خلال 6 أشهر من مدَّة عملي في قندوز، أنجزنا تهيئة قسم كبير لإعادة استقبال المرضى، حيث كانت أعمال إعادة البناء مستمرّة، وكنّا جميعاً بانتظار الافتتاح الكبير. بعد مغادرتي بأسبوعين، بدأت المستشفى باستقبال المرضى في عيادتنا المؤقتة.
انتهى القتال في مدينة قندوز في شمال شرق أفغانستان في 8 آب الماضي. وخلال الاشتباكات، حوّلت “أطباء بلا حدود” مكتبها إلى وحدة مؤقتة لعلاج إصابات الجرحى.
وفي 16 آب، نُقل جميع المرضى إلى مركز قندوز لعلاج الإصابات البالغة، إذ كان شبه مكتملٍ، بعد أن بدأت المنظّمة ببنائه منذ العام 2018.
أما في الثامن من تشرين الأول، فقد وقع انفجار في مسجد في قندوز، واستجاب فريق “أطباء بلا حدود” على الفور، من خلال تفعيل خطة إدارة الإصابات الجماعيّة في مركز قندوز للإصابات البالغة، حيث نُقِلَ نحو 20 قتيلاً و90 جريحاً إلى المستشفى؛ وقد عملَ الفريق الطبي من دون كللٍ في غرفة الطوارئ وغرف العمليات.
قبل أسبوع من وصول #طالبان إلى كابول، كنا نتابع الوضع عبر نشرات الأخبار، وكيف ينتقل مقاتلو طالبان من مدينة الى أخرى قبل الوصول إلى العاصمة كابول. غادرت أفغانستان قبل يوم واحد من الإجلاء الكبير، أي قبل استلام طالبان العاصمة كابول، وبعد أربعة أيام من سيطرت حركة طالبان على المباني الحكومية الرئيسيّة في مدينة قندوز في 8 آب 2021.
يوم ١٢ آب ٢٠٢١، توجّهت من قندوز إلى مطار كابول لأودّع أفغانستان، وللبدء بالتخطيط لمهمة ثانية. وأنا في طريقي إلى المطار في الصباح الباكر، شعرت بأن كلّ شيء تغيّر هنا؛ الجميع يشعر بالخوف. وعندما وصلنا إلى كابول لم نكن نتوقّع ما حصل.
المشهد في المطار مخيف، يعجّ بالناس وكأنه يوم الرحيل. عائلات بأكملها تحملُ حقائبها، وكأنَّ الجميع يودّعون البلاد للمرّة الأخيرة من نساء ورجال وأطفال….
مشهد الأطفال وهم يحملون ما استطاعوا حملَه كان مخيفاً ومبكياً؛ ألعابهم بين أيديهم، وكأنّهم يحملون كلّ ما تبقّى لهم من بلدهم الأم.
ستة أشهر هي التجربة التي عشتها في مدينة قندوز. كنت أقضي معظم أوقاتي في منزل مقفل لا أستطيع الخروج إلا إلى المستشفى حيث عملي. وتبعدُ المستشفى عن المنزل نحو ٥ دقائق بالسيارة. كان من الصعب علينا التنقّل سيراً على الأقدام خوفاً من الأوضاع الأمنيّة في البلاد. أما الفسحة الوحيدة الأسبوعية لي ولزملائي في المنظّمة فكانت ساعة الخروج إلى السوبر ماركت لشراء حاجيّاتنا الأسبوعيّة… كنت أنتظر يوم الجمعة بفارغ الصبر لأشتري كلّ ما يحلو لي من أنواع الشوكولاتة الداكنة.
مهمّتي في قندوز كانت من أجمل القصص التي عشتها في حياتي. ومن اللحظات التي ستبقى في ذاكرتي الأطفال الذين يلعبون في الشارع غير آبهين بما يجري من حولهم من نزاعات مسلّحة.
كم سأشتاق إلى صوت نغمة “هابي بيرز داي تو يو” التي كانت تُعلمنا بأن سيّارة البوظة وصلت إلى الحيّ وقد طغت على أزيز الرصاص.
النهار