عسكر لبنان تحت الحصار
أبدت سفارات وملحقون عسكريّون أجانب اهتماماً بـ«التسرّب» من الخدمة في القوى الأمنية والعسكرية، وسعى هؤلاء إلى الاستفسار عن حجم هذا التسرّب، بعد الحديث عن تجاوز عدد من تركوا الخدمة طوعاً في كل الأجهزة الأمنية الـ 5000 بين ضابط ورتيب وعسكري، بينهم نحو 350 من قوى الأمن الداخلي، فيما القسم الأكبر منهم من الجيش. وقد تبيّن أن بعض الضباط الذين كانوا يشاركون في دورات خارج لبنان أرسلوا طلبات استقالة من السلك العسكري من الخارج.
الاستفسارات الغربية والعربية ركّزت على مسائل لا تتعلق فقط بالأزمة المالية التي تواجهها القوى العسكرية والأمنية، بل على نوعية التسرّب، إذ أن البعض سأل عن الرُّتب والمواقع والاختصاصات والطوائف والميول السياسية. وقد ظهر أن معظم المتسرّبين مسيحيون، يليهم شيعة ودروز، مقابل أقلية سُنية، وأن معظم الضباط الذين تركوا الخدمة يعملون في اختصاصات الطبابة والهندسة ويمكنهم العثور بسرعة على وظائف بديلة. فيما يسيطر إحباط على بعض العسكريين بسبب ما يسمونه «الاستنسابية» في توزيع مساعدات غير مرئية، خصوصاً في الجيش، إذ يتمتع أفراد من القوات الخاصة بمزايا إضافية، بقرار قائد الجيش العماد جوزيف عون حرصاً على عدم الإضرار بقدرة الجيش على التحرّك.
الجديد، هو تلقّي عواصم عربية وغربية «تحذيرات» من انهيار حقيقي في القوى الأمنية والعسكرية ما لم يتم تنفيذ برنامج مساعدات طارئ يشمل دعم الرواتب. وبعد سلسلة مشاورات، عُقد قبل نحو عشرة أيام اجتماع في السفارة الأميركية في عوكر، حضره ممثلون عن دول عدة وممثلون عن القوى الأمنية والعسكرية والأجهزة التابعة لها، وجرى خلاله استعراض الحاجات الملحّة لهذه القوى. وبعدما قدّم ممثل كلّ جهاز أمني وعسكري تقريراً عن الحاجات المباشرة لجهازه، لجهة العتاد وقطع الغيار والتجهيزات اللازمة خصوصاً في مجالَي مكافحة الإرهاب والمخدّرات، تطرّق البحث إلى ملف المساعدات المالية المباشرة. وقد وعد الأميركيون بإجراء اتصالات مع حكومتهم ومع دول أخرى، لتوفير مبالغ مالية كبيرة تساعد في تحسين رواتب العسكريين الى ما يوازي إعطاء راتب ثانٍ، وفق برنامج يتضمن التمييز بين المتأهّل والأعزب، وبين نوعية من يخدم في المكاتب أو يعمل على الأرض أو يشارك في مهامّ قتالية أو أعمال أمنية خاصة.
وقال ضباط كبار أمام المسؤولين الغربيين إن الدول العربية لن تزيد المساعدات، وإن ممثلين عن دول خليجية أكدوا في اجتماعات مغلقة رغبتهم بتقديم العون، لكنّهم يخشون إغضاب السعودية التي لا تزال تصرّ على رفض تقديم أي دعم مالي للبنان. وقال هؤلاء إن الموقف السعودي لا يتعلّق حصراً بالموقف من الرئيس سعد الحريري، بل يشمل كل الدولة اللبنانية مع قرار وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان «إبعاد لبنان عن طاولة البحث».
وقد شدّد مشاركون في الاجتماع على ضرورة الاستدامة في المساعدات، نظراً إلى العجز في مالية الدولة وصعوبة الوصول قريباً إلى حلول تُتيح تحسين أوضاع العسكريين. ويجري الحديث عن مساعدة أولية تساوي قيمتها نصف أساس الراتب تُدفع بالليرة، على أن تشمل كلّ الضباط والعسكريين. فيما جرى تعديل نظام الخدمة وفقاً لما عُمل به خلال أزمة كورونا، مع استثناءات إضافية. حيث بات بإمكان العسكري أن يخدم أسبوعاً ويغيب أسبوعاً أو عشرة أيام بحسب موقع خدمته، على أن تغضّ الشرطة العسكرية النظر عن أيّ عمل إضافي يمارسه العسكري، خصوصاً من يملكون مهارات مهنية، على أن يُترك للعسكري تقدير ما إذا كانت الأعمال الإضافية تشكل خطراً على المؤسسات العسكرية والأمنية أو تتعارض مع الواجب الوظيفي.
وقد عبّرت قيادتا الجيش وقوى الأمن الداخلي عن رغبتهما بالحصول على مساعدات مالية مباشرة للعسكريين من مختلف الفئات. وهو أمر دونه مشكلات كبيرة، أبرزها أن الحكومة ليست في وارد اتخاذ قرار برفع رواتب العسكريين دون غيرهم من موظّفي القطاع العام، كما أن المساعدات الخارجية لا تزال في غالبيتها على شكل هبات تتضمّن مساعدات لوجستية للقوى العسكرية وكميات كبيرة من المواد الغذائية والطبية توفر على الجيش الإنفاق من موازنته. علماً أن الأهم بالنسبة إلى بعض القطع العسكرية هو توفير قطع الغيار والمواد الخاصة بالصيانة، وهو أمر تعمل الولايات المتحدة على توفيره من خلال جيوش دول تعمل ضمن حلف شمال الأطلسي، أو تستفيد من دعم الجيش الأميركي، ما يجعل هذه الجيوش تقدم ما يمكنها الاستغناء عنه من معدّات للجيش اللبناني.
وأكد أكثر من مصدر، بينها من المؤسسة العسكرية، حصول قيادة الجيش على دعم بالدولار الأميركي النقدي، وأن دعماً مماثلاً وصل إلى أجهزة أمنية أخرى من بينها الاستخبارات والأمن العام وأمن الدولة وقوى الأمن الداخلي وشعبة المعلومات، وُضع في خانة مبادلته بفواتير شراء معدّات، إذ تشتري هذه الأجهزة معدّات تُفوتر بالدولار وتُقدم إلى الأميركيين الذين يحتاجون إلى هذه الآلية لتبرير صرف الأموال أمام الكونغرس الأميركي. علماً أن الموازنات السرية الخاصة بالاستخبارات العسكرية الأميركية لا تزال تعمل في أكثر من مكان من العالم بما في ذلك لبنان.
ولم يتّضح بعد ما إذا كانت قيادات عسكرية وأمنية قد حصلت على دعم مباشر بالدولار الأميركي، وهو أمر يردّده عسكريون يؤكدون أن ضباطاً ورتباء «محظيين» حصلوا على دعم خاص، وقد بُرر ذلك بأنه تمّ من المصاريف السرية لقاء خدمات وأعمال لا يمكن الإفصاح عنها.
الأميركيون والبريطانيون سألوا عن احتمال تعرّض المؤسسات العسكرية والأمنية إلى انتكاسة جرّاء الانهيار المالي، علماً أن هؤلاء سمعوا من ضباط بارزين في الجيش وقوى الأمن الداخلي بأن الوضع المالي لمقاتلي حزب الله وضباطه أفضل بمرات عدة من الوضع المالي لعديد القوى العسكرية والأمنية، وأنه في حال اعتبر الغرب أن حصاره يهدف إلى ضرب حزب الله فقد أدّى إلى العكس. وهو ما عاد وأقرّ به الأميركيون الذين يحاولون صياغة سياسات جديدة، خصوصاً بعد بدء وصول المازوت الإيراني إلى لبنان، وخشيتهم من توسّع العملية لتشمل البنزين وربما الفيول لمحطات الطاقة والمواد الغذائية والدواء، وهذا من شأنه الإضرار بحلفائهم الذي يشكون أمام الغربيين والسعوديين والإماراتيين من نقص التمويل. علماً أن معظم الغربيين يعرفون بعد التدقيق أن السرقات وهدر الأموال من جانب حلفائهم من الأسباب الرئيسية وراء توقّف بعض العواصم عن الدعم. وقد وصل الأمر بأحد الأمنيين الأميركيين إلى القول إن دعم جمعيات مدنية أقل كلفة وأكثر فعّالية من دعم جهات حزبية بعينها.
ويروي ضابط كبير عن لقاء جمعه بأحد الأجانب تناول تأثير الأزمة على نفوذ القوى الأمنية والعسكرية وهيبتها، إزاء ا ل ح ز ب على وجه الخصوص. وأضاف أنه سأل ضيفه عمّا إذا كان التضييق نجح في ضرب الحزب وإضعافه، ولفته إلى أن مقاتلي الحزب يخضعون لدورات تدريب وتأهيل مستمرة، وهي دورات تحتاج إلى موازنات على صعيد التغذية والطبابة وخدمة المشاركين في التدريبات أو المناورات وعلى صعيد توفير الذخائر والآليات. في مقابل تراجع القدرة التأهيلية لدى القوى الأمنية والعسكرية الرسمية إلى حدّها الأدنى، إضافة إلى أن مقاتل ا ل ح ز ب يحصل على راتب يكفيه وعائلته ويسمح له بمساعدة آخرين، كما يحصل على وسائل دعم مختلفة في ما يتعلق بالغذاء والتعليم والطبابة والنقل، فيما تتراجع هذه الخدمات لدى مختلف القوى الأمنية والعسكرية.
وعليه، فإن الجميع يترقّب نتائج الزيارة التي ينوي قائد الجيش العماد جوزيف عون القيام بها إلى الولايات المتحدة قريباً، وما إذا كانت ستوفر له دعماً استثنائياً، علماً أن السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا كانت أقرّت بأن بلادها غذّت الحساب الخاص لقيادة الجيش في مصرف لبنان بعشرات الملايين من الدولارات الطازجة، لكنها قالت إن آلية الإنفاق مرتبطة بالفواتير المقابلة ولو المؤجّلة، مشيرة إلى هوامش واسعة جداً أمام قائد الجيش لتقرير وجهة إنفاق هذه الأموال.
من جهة أخرى، حذّر مسؤول بارز في قوى الأمن الداخلي من أن تعطّل التمويل المباشر لوحداته العاملة في مكافحة المخدّرات أو الإرهاب، سينعكس سلباً على عمل الجهاز، مشيراً إلى أن «موازنة أصغر مهرّب لتمرير صفقاته توازي مئة ضعف موازنة القوة الأمنية التي تعمل على مطاردته»، وأن الخطر هو من انتشار الرشوة في صفوف القوى الأمنية والعسكرية، وهو ما لوحظ في بعض عمليات مكافحة تهريب المخدّرات وتسهيل خروج مطلوبين للعدالة من لبنان.
وبحسب ضباط كبار في قوى الأمن الداخلي، فإن المشكلة قابلة للتفاقم أكثر بسبب تعطّل قسم كبير من آليات المخافر والمفارز التي تتحرّك عادة في المناطق كافة. وهناك صعوبة كبيرة في توفير أموال الصيانة أو شراء قطع الغيار. ويقول هؤلاء إن الاجتماعات التي عقدها المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان مع سفراء عرب وأجانب انتهت إلى حصول قوى الأمن على مساعدات غذائية وطبية وهبات مالية محدودة ذهبت إلى صندوق التعاضد الخاص بقوى الأمن، فيما لم تُترجم الوعود الكثيرة إلى أفعال جدية، رغم أن القوى السياسية الحليفة للولايات المتحدة ولدول الخليج لفتت انتباه هذه الدول إلى أن ما يجري يجعل القوى الأمنية والعسكرية اللبنانية في حالة شلل.
بعد تفاقم الأزمة، أدخلت قيادة الأمن العام تعديلات على برامج الدعم الإضافي والتقديمات التي كان يحظى بها ضباط المديرية وعناصرها، مثل حسم نسبة من بونات البنزين الشهرية التي يحصل عليها الضابط في الخدمة أو في التقاعد، وتقليص حجم المساعدة الاجتماعية التي كان يحصل عليها العسكريون من صندوق خاص يتغذى من عائدات العلاقات العامة وبعض الهبات. وتأثرت الأقسام المعنيّة بالمعلومات والتحقيق في المديرية نتيجة تقلص قيمة المصاريف السرية التي كانت المديرية تحصل عليها أسوة ببقية الأجهزة، وخصوصاً أن المخبرين لم يعد يناسبهم العمل مقابل مبالغ كانت تساوي سابقاً بين 200 و300 دولار شهرياً وأصبحت الآن تساوي أقل من 40 دولاراً. فيما توجد مشكلة كبيرة في القرطاسية والورق والمحابر في عدد كبير من المراكز الأمنية، ما يؤثّر على سير العمل.
وأوقف الأمن العام إصدارات بلاغات التحري والفرار بحق الذين تركوا الخدمة من دون سابق إنذار أو خلافاً للقانون، وامتنع عن ملاحقتهم كما كان يحصل في الأحوال العادية، علماً بأن عدد الذين تركوا الخدمة قليل جداً قياساً ببقية الأجهزة الأمنية والعسكرية.
ومنذ أكثر من سنة، توزع المديرية كل ثلاثة إلى أربعة أشهر دعماً مالياً للعسكريين يعادل 50 في المئة من أساس الراتب للمتأهل، و25 في المئة للأعزب. ولكن، منذ ثلاثة أشهر، تقرر صرف مساعدات شهرية تتراوح نسبها بين 10 و15 في المئة من أساس الراتب على العسكريين من مختلف الرتب.
وفي سياق مساعدة العناصر والضباط، بادرت قوى الأمن الداخلي والأمن العام والجيش إلى تقديم بونات حصص غذائية بأسعار مدعومة. وتعرض المؤسسة الأمنية سلّة غذائية للحاجات الأساسية بسعر يوازي ثلث سعرها في السوق. كما يستخدم قادة وحدات ومسؤولو مراكز إقليمية علاقاتهم لتوفير بونات غذائية ومساعدات عينية تُمنح مجاناً أو بأسعار زهيدة.
في بعض المناطق، حيث توجد مواقع ونقاط ثابتة للجيش، تبادر لجان أهلية وبلديات الى تزويد العسكريين ببعض الحاجيات الضرورية كالطعام والشراب. واللافت، بحسب أحد العاملين في قوات الطوارئ الدولية في الجنوب، أن «الأهالي»، ويقصد عادة بهذا التعبير الوحدات المدنية في المقاومة الإسلامية، يوفرون لبعض النقاط الإنارة والمواد الغذائية والمياه وبعض المحروقات، ويجري ذلك بطرق غير مباشرة من خلال العلاقات الخاصة بين ضباط ومسؤولين في المقاومة في تلك المناطق.
كما أشار مسؤول فلسطيني الى أن بعض قيادات عسكرية فلسطينية في المخيمات الفلسطينية تعرض مساعدات أحياناً على عناصر القوى العسكرية المنتشرين عند أبواب المخيمات، مشيراً الى أن المقاتلين الفلسطينيين يتلقّون رواتبهم بالدولارات التي تصرفها السلطة الفلسطينية أو الفصائل الأخرى، ما جعل أوضاعهم أكثر راحة من أوضاع العسكريين اللبنانيين.
يشار أيضاً الى أن بعض الضباط الذين يملكون علاقات مع أصحاب تعاونيات كبيرة أو مراكز تموين يعمدون الى طلب مساعدات لعسكريين في مراكز الخدمة أو لعسكريين لم يعد راتبهم الشهري يكفي لأسبوع واحد.
وفي وزارة الداخلية، افتتح مطبخ يومي في المقر العام لتقديم وجبات طعام يومياً لعشرات العسكريين، إضافة الى صالون حلاقة مجاني للعناصر في الخدمة.
وفي سرية حرس رئاسة مجلس النواب، استفاد العسكريون من دعم خاص وفّرته حركة «أمل» لمحازبيها وعائلات تخصّها تمثّل في دفعة مالية قيمتها 400 ألف ليرة، إضافة الى حصص غذائية.
في خطوة لافتة، ومخالفة لقوانين وأعراف عمل العسكريين، اتخذت وحدة القوى السيارة في قوى الأمن الداخلي قراراً بسحب المسدسات من العناصر أثناء مغادرتهم مركز الخدمة العسكرية خشية قيامهم ببيعها أو الادعاء بأنها تعرضت للسرقة أو الفقدان باعتبار أن ثمن المسدس الواحد يزيد على ثلاثين مليون ليرة، أي ما يعادل راتب العسكري لسنتين تقريباً. وقد اتّخذ القرار قائد فوج السيار المركزي المقدم روجيه عازار وقائد فوج التدخل السريع المقدم وسام فاخوري. وأثار القرار استياء العناصر لكونه تشكيكاً في أمانتهم، فضلاً عن أنّ عنصر الأمن يفترض أن يكون مسدسه بحوزته في كلّ الأوقات، فكيف في ظل هذه الظروف الأمنية والاقتصادية الصعبة؟ ورأى هؤلاء أنّ القيادة فضّلت قيمة السلاح على سلامة العنصر.