زمن الـ “مش وقتو” يطال الأساسيات وأبسط التفاصيل
صدى وادي التيم- لبنانيات/
يؤجلون أقساط المدرسة، وفواتير المولد، يؤجلون تصليح سيارتهم او تسديد دفعاتها المستحقة، ويؤجلون دفع التأمين والميكانيك ويكسرون مستحقات الضمان الاجتماعي على شركاتهم ومتوجبات شركة المياه على بيوتهم، ومن جهتهن يؤجلن فحوصاتهن الفصلية والسنوية وحتى لقاحات أطفالهن ويرجئن الى آجال بعيدة متطلبات كثيرة كانت لأشهر مضت حيوية وصارت اليوم حلماً مؤجلاً بعيد المنال. هكذا باتت حياة اللبناني بكل تفاصيلها عالقة في عنق زجاجة، مخنوقة عاجزة، ترحّل الى غد مجهول كل استحقاقاتها اليومية والمعيشية والسياسية والمالية.
لم تعد حياة اللبنانيين ملكاً لهم كما كل شعوب الأرض ولم يعودوا أحراراً بها، قادرين على التحكم بأمورها كما يحلو لهم، بل صار خبزهم ودواؤهم وطبابتهم وبنزين سياراتهم وأقساط مدارس أولادهم مرهوناً بمصرف لبنان ومنصّاته المتعددة وتعاميمه المختلفة ورهناً بولادة حكومة منتظرة منذ 13 شهراً وما تحمله معها من آمال بإيقاف الانهيار. لم تعد حياتهم ابنة ساعتها، صارت مربوطة بتوقيت المازوت والبنزين والكهرباء والماء، أسيرة الدولار واللولار ومشتقاتهما تتحكم بها وتحدد مسارها كما تشاء فإما تسمح لها ان تسير قدماً وتنجز واجباتها او تجبرها على تأجيلها.
كل شيء في البلد مؤجل من أبسط الأمور اليومية حتى أعظمها: صبغة الشعر الذي غزا الأبيض جذوره مؤجلة تماماً كقانون “الكابيتال كونترول ” المؤجل إقراره في المجلس النيابي. وتغيير “بوجيات” السيارة وإصلاحها ينتظر مثله مثل اي تغيير وإصلاح آخر، أما التدقيق في فاتورة المولد فمثله مثل التدقيق الجنائي “مش وقته” منعاً لفتح أبواب مغلقة، تأجيلها هو الحل الوحيد اليوم. حتى الوصول الى جهنم صار مثل الوصول من الدورة الى جونيه رحلة متباطئة تستغرق وقتاً أكثر من اللزوم.
تأجيل الاستحقاقات ليس كسلاً في حياة المواطن اللبناني ولا تلكؤاً او تسويفاً بل اصبح هروباً الى الأمام وجدولة للأولويات في محاولة لحماية الحاضر المهزوز. يروي أحد أصحاب محال تصليح وبيع الدواليب على أوتوستراد المكلس كيف ترجّى أحد زبائنه ان يغير الدولابين الأماميين لسيارته مع اقتراب فصل الخريف والأمطار لأنهما باتا يشكلان خطراً عليه ولا سيما في مشواره اليومي الى منطقة برمانا الجبلية، لكن الزبون التالفة أعصابه وميزانيته، وجد عشرات الأعذار لتأجيل هذا الخطر الداهم واختلق الحلول الترقيعية لدواليبه وحياته. فشراء دواليب، وان مستعملة، أمر يحتمل التأجيل رغم أخطاره اما دفع التأمين الإلزامي للسيارة والتأمين ضد الغير فأمور اشد إلحاحاً حتى لا يخترب بيته إذا ما صدم عابراً على طريق او سيارة في مسلك. بين الشرين اختار الأهون وأجلّ الآخر.
وإذ أصبح اللبناني يطمر رأسه في الرمل كالنعامة ليؤجل مواجهة الأخطار، فالملذات أيضاً في حياته مؤجلة، الزواج صار حلماً بعيد المنال لا يجد المرتبطون إليه سبيلاً وسط الغلاء الجنوني لكل متطلبات الحياة الزوجية العتيدة، وما حفلات الزفاف التي تقام اليوم إلا كمبيالات مستحقة على أصحابها لم يعد بإمكانهم التهرب منها، لكن لا ارتباطات جديدة تلوح في الأفق ما لم يكن العروسان من جماعة الفريش موني وفق ما يقول ريان الذي كان يخطط للزواج من رفيقته وحبيبته بعد ان تخرج ووجد لنفسه وظيفة باللبناني، لكن بعد ان طار الدولار طار حلم الزواج ومعه حلم إنشاء عائلة. “كيف منجيب ولد بلبنان؟” والإنجاب طريقه محفوف بالمخاطر مع تأجيل صندوق الضمان الاجتماعي مدفوعات المرض والأمومة الى المستشفيات والمستحقين وتأجيل محتكري الحليب والأدوية واللقاحات وضعها في السوق في انتظار أن تتضاعف ارباحهم بعد رفع الدعم الكلي عن الأدوية. حتى اساتذة الجامعة اللبنانية والأساتذة المتعاقدون ومعهم اساتذة التعليم الخاص قد يستمرون بإضراباتهم المتواصلة والمتكررة ويؤجلون العودة الى التدريس الى أن يكبر صغار اليوم ويصبحوا طلاباً في وطن المستقبل فيه مؤجل.
طويلة وطويلة جداً لائحة الأشياء التي يؤجلها المواطن اللبناني في حياته حتى ليكاد لبنان يشبه جزيرة كوبا في عز حكم فيدل كاسترو حين كان الزمن فيها متوقفاً والحياة كأنها من عصر آخر. والذي يلقي نظرة على أرتال السيارات المتوقفة أمام المحطات يتفاجأ بحالها: مهلهلة، “مضروبة” ومتروكة على علاتها فلا الحدادة وقتها ولا البويا أهم من الخبز وكل تنهيدة تصدر عن السيارة يعالجها صاحبها بتنهيدة أعمق يزفرها من أعماق القلب في انتظار أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وفي زمن التأجيل يدرك المتأمل بحال الناس وأشيائهم أن لبنان سائر حتماً لأن يكون مستودعاً كبيراً لسيارات وأدوات وأغراض صارت كلها بنصف عمرها وتجديدها مؤجل. “آكس” الغسالة او “بوبين” المكيف ورفاص الكنبة “مش وقتن هلق بينطروا”…
جارنا سليمان يرشح زيتاً لا لشبهة قداسة هو بعيد كل البعد عنها بل لأن استحمامه مؤجل حتى عودة المياه الى خزانه، ليس مستعداً أن يدفع ثلث راتبه بدل صهريج، مياهه أكثر اتساخاً من شعر سليمان. أما جارته سميرة فتكوَّم الغسيل في مطبخها تلالاً وفاحت منه انبعاثات كريهة لأن ربة البيت القديرة تؤجل “غسيلها” حتى تقتنص ساعتين متتاليتين من التيار الكهربائي تنهي فيهما الغسلة من دون اللجوء الى خدمات المولد التي باتت أسعاره كالنار. ومن هذه الأمثلة البسيطة الى ويلات أشد وأدهى كل ما في لبنان مؤجل.
عودة اللاجئين السوريين ” الآمنة والكريمة” الى بلادهم مؤجلة في انتظار الاستقرار او رحيل بشار، لكن في خضم الانتظار يعيد اللاجئون المتنعمون بمساعدات الدول كافة انتخاب الرئيس بحكم العادة والتكرار، ويستعيدون على الأرض حضوراً كان لسواهم “موقتاً، شرعياً وضرورياً”. ولم تنفع الوفود المستجدة الى الشام بعد في تسريع عودة اللاجئين، فالحديث بشأنهم يمكن تأجيله في انتظار مقايضة ما تحمل رائحة غاز مستجّر.
حكومة العهد “الأولى” مؤجلة حتى الحصول على الثلث الضامن الذي يعيد للمسيحيين حقوقهم وللعهد هيبته. سابقاتها كن “خرطوش” اما النسخة المنقّحة فمُرحّلة الى أجل غير مسمى. فيما زيارات الرئيس ميقاتي الى القصر الجمهوري باتت روتيناً اسبوعياً مثل جلسة البوكر بين الأصدقاء يتبدّل فيها الرابحون والخاسرون بحسب الورق والحظ…
التنقيب عن النفط بات حتماً مؤجلاً بعد ان عثر على كميات نفط مخزنة في أرض لبنان توازي ما يمكن ان تدرّه البلوكات المشكوك بأمر مخزونها من نفط. والتنقيب الذي وُعد به شعب لبنان في هذه البلوكات يحتاج الى ترسيم الحدود البحرية والاتفاق على المساحة المائية المتنازع عليها ليبدأ العمل في البلوكات، لكن مفاوضات الترسيم بين لبنان وإسرائيل مرجأة الى أجل غير محدد بعد جلسة الخامس من أيار الأخيرة حيث طلب الرئيس عون الى الوفد المفاوض عدم استكمال عملية التفاوض تحت ضغوط الشروط الاسرائيلية المسبقة. وحلم “لبنان بلد نفطي” بات مؤجلاً واستعيض عنه في الوقت الحالي بنفط التخزين والاحتكار…
أما الاستحقاقات الانتخابية الثلاثة النيابية، البلدية والرئاسية التي تصادف في أوقات متقاربة تبعاً لمواعيد إجرائها سابقاً فقد يطالها التأجيل هي الأخرى وإمكانية إجرائها تطرح أكثر من علامة استفهام، لا بل ان أحاديث التأجيل قد بدأت تسمع في الكواليس والصالونات حيث يقال انه في حال لم تشكل الحكومة العتيدة فالاستحقاقات الانتخابية ومن بعدها الرئاسية ستوضع على الرفّ على مرأى العين الأوروبية المترقبة والمفتوحة للمحاسبة. وتأجيل الانتخابات او تمديد ولاية المجلس هواية يبرع بها المجلس النيابي وقد تكررت في 2013 و2014 كما في 2017 وفي المجلس الحالي تم تسويف الانتخابات الفرعية وتأجيلها الى أن غادرت الى غير رجعة بدون ان يعرف ماذا كانت ترتدي!. فهل تلحقها الانتخابات النيابية وتشهد مصيراً مماثلاً تحت حجج كثيرة باتت الحكومة كما المجلس النيابي متمرسين بها ؟ ام ان تأجيل البطاقة التمويلية حتى موعد اقتراب الانتخابات لتصبح هي الناخب الأكبر مؤشر الى حدوث الانتخابات في موعدها بعد ضمان نتائجها؟
وماذا عن الانتخابات البلدية والاختيارية التي يفترض قانونياً ان يتم إجراؤها في ايار 2022 بالتزامن تقريباً مع الانتخابات النيابية هل تؤجل الى ما بعد هذه الأخيرة حتى تتوضح صورة القوى في المجلس النيابي الجديد وتبنى على أساسها التحالفات البلدية والعائلية والعشائرية؟ وماذا لو تأجل الاستحقاقان النيابي والبلدي اين يصبح الاستحقاق الرئاسي المفترض إجراؤه في تشرين الأول 2022 وهل يعود البلد الى سيناريوات عرفها في اواخر التسعينات ويتكرر الكثير من ملامحها اليوم؟ هل يتأجل انتخاب الرئيس ويبقى الرئيس عون في بعبدا في القصر الأحب الى قلبه لضمان عدم حدوث فراغ رئاسي كما يبشر البعض.
وإذا كانت الشؤون السياسية كلها مؤجلة فالشؤون المالية والقوانين التي تلجم الانهيار يتم الدفع بها الى آجال غير مسماة. وكأن كل من في المجلس يصلي قائلاً: إلهي أبعد عني هذه الكأس. فبعد ان اقر قانون الكابيتال كونترول المنتظر منذ العام 2019 في حزيران 2021 في لجنة المال النيابية رحّل الى لجنة الإدارة والعدل التي رأت ضرورة تمحيصه وإشباعه درساً وبكلام آخر تأجيل البت فيه لأنه وبحسب تقرير لجنة المال “أي خطوة ستبقى عاجزة عن وضع حلول دائمة ما لم تقترن باستقرار سياسي من أوّل متطلباته تأليف حكومة تتصدّى للمشكلة بكفاءة وجدارة، وإجراء إصلاحات بنيوية من ضمن خطة واضحة ومتكاملة تضع الاقتصاد الوطني على سكة استعادة مقومات حيويته وانطلاقته، وتخرج البلد من أزمته”.
خروج البلد من الأزمة مؤجل ينتظر رحيل من كانوا السبب فيها اما حياة الناس في غضون ذلك وأحلامهم واحتياجاتهم وأصغر امورهم كما الكبرى تنتظر فرجاً لا يبدو قريباً.
نداء الوطن