آل الحدشيتي الذين لم يعودوا بعد…من ذكريات الحرب اللبنانية

صدى وادي التيم – لبنانيات /

كانت الحرب اللبنانية في عزّ تأجّج نارها الطائفية حين وجّه مجهول شتيمة دينية إلى مختار وادي الرّطل جريس منصور الحدشيتي في ساحة السبيل في الهرمل، ثم أتبعها بطلق ناري مرّ من فوق رأسه. يومها كان آل الحدشيتي، يسكنون وادي الرّطل، أحد أودية جرود الهرمل، وهم شركاء عشيرة علّوه بملكيّته. لم يهنْ على آل علوّه أن يتعرّض المختار، جارهم، لإهانة واعتداء مماثليْن، فتسلّح رجال العشيرة وقصدوا ساحة المدينة بحثاً عن الفاعل. يقضي العرف العشائري الانتصار للجار وصونه، خصوصاً وأنّ شركاءهم في الوادي، عشيرة الحدشيتي، كانوا أقليّة مارونية بين شيعة الهرمل وجردها.

تقول نظيرة الحدشيتي، ابنة المختار، إنّ شبّان علّوه صاروا يحرسون مدخل الوادي وحرج السنديان من الجهات كافّة للتصدّي لأيّ شخص أو جهة تريد بآل الحدشيتي سوءاً. المفارقة أنّ آل علّوه “ما كانوا يخبّرونا إنهم عم يحرسوا الوادي بالليل”، تقول نظيرة التي تروي الحادثة لـ”المفكرة” من منزلها في حدشيت، قضاء بشري، التي رحل إليها أبناء وأحفاد منصور ليشع الحدشيتي، زعيم آل الحدشيتي الذين سكنوا وادي الرّطل لغاية 1976. بعد أن تنهي حديثها عن حراسة شبان علّوه، تسترسل في الحديث عن طفّار من آل علّوه أووا إلى بيت أهلها (بيت المختار) لفترات طويلة وصلت إحداها إلى سنتين.

“سلامتنا من سلامتكم ما تتركونا” 

بعد أشهر من حادثة إطلاق النار فوق رأس مختار آل الحدشيتي في ساحة الهرمل، اجتمع الأخير مع أخوته يوسف وحنّا ومثلج وليشع والياس، وهم ذرّية منصور ليشع الحدشيتي جدّ العشيرة في فرعها الهرملي، وقرّروا مغادرة الوادي إلى حدشيت في بشري. “خافوا يحمّلوا بيت علوه دم من وراهم”، كما يقول حفيده فايز حنّا الحدشيتي لـ”المفكرة”، وكان عمره ثلاثين عاماً في 1976. “ما كان بدّهم يضلّوا بيت علّوه حارسينا، هيك خبّرني بيي”، يضيف ابن عمه بشارة يوسف الحدشيتي الذي حضر للمشاركة في الحديث، ولم يكن قد بلغ الثامنة من عمره يومها.

حاول آل علّوه ثني آل الحدشيتي عن قرارهم بلا جدوى. وفيما كانوا يضعون أثاث منازلهم وأولادهم في آليّات البيك آب وفي السيارات استعداداً لمغادرة وادي الرّطل نهائياً، فوجئوا بتجمهر عدد كبير من عشيرة علّوه في منتصف الطريق “ما منقبل تتركونا وتفلّوا، سلامتكم من سلامتنا ونحن أهل ومنعيش سوا، ولّي بيصير عليكم بيصير علينا” قالوا لهم. تقدّم المختار جريس نحو الجمع وخاطبهم باسم عشيرته “منروح شوي ومنرجع بس تخلص الحرب، اسمحوا لنا نفلّ ونقلّكم بخاطركم“، وبعد أخذ وردّ، أذعن آل علّوه مكرهين لرغبة جيرانهم “ناطرينكم”، قالوا لهم وهم يلوّحون بأيديهم مودّعين. “بكينا نحن وإيّاهم”، يضيف فايز “كانت أعيادنا أعيادهم وأعيادهم أعيادنا، نفرح سوا ونحزن سوا”، يضيف.

ذكريات الحرمان ما قبل الحرب

قبل الحرب، كان الحرمان قد بدأ باستنزاف آل الحدشيتي كما سكان قضاء الهرمل كلّه: “المنطقة متروكة وما كنّا نعرف الدولة”، يقول فايز الحدشيتي، ليؤكد أنّ عدداً كبيراً من شبّان عائلته، وحتى عائلات بأكملها كانت قد نزحت إلى بيروت وبعض المناطق الأخرى سعياً وراء العلم والعمل: “ما كان عنّا مَي حتّى للشرب بوادي الرّطل”، كما أنّ الكهرباء لم تصل إلى الوادي إلّا في 1971، “يعني قبل ما نفلّ بخمس سنين”.

قبلها، كان سكّان الوادي يعيشون على ضوء القناديل: “كنّا نسميه الكاز”، وهو القنديل الذي يضاء بـ”زيت الكاز”. كانوا يعيشون مع بيت علّوه على تربية المواشي والزراعات البعلية، يجمعون مياه أمطار الشتاء وثلوجه في آبار التجميع “ما في ينابيع بالوادي والدولة ما حفرت لنا بير مَي حتى لنشرب”. تقول نظيرة إنّ مياه آبار التجميع كانت “صافية متل دموع العين”، فيضحك بشارة الحدشيتي ويقول إنّ جمال أصوات آل الحدشيتي سببها تلك المياه العذبة والصافية “عنّا كتير أصواتهم حلوة يمكن من ميّة البيارة”.

الوادي المهجور

يوجد على سجلّات وادي الرّطل 1200 ناخب بينهم نحو 420 مقترعاً من آل حدشيتي أدلى 90 ناخباً منهم بأصواتهم في انتخابات 2018 النيابية الأخيرة. وللأسف لم يبقَ في الوادي سوى 15 منزلاً لعشيرة علّوه مسكونة اليوم: “الحرمان هجّر آل الحدشيتي وبيت علّوه كمان”، يؤكد المختار.

وفعلاً يبدو وادي الرّطل اليوم شبه مهجور برغم جماله هو الذي يقع وسط حرجَي سنديان على سفحين غربي وشرقي مشكّلين الوادي الذي ينساب من أعالي الهرمل ولغاية منطقة البرغش الجردية التي ترتفع نحو 1200 إلى 1300 متر عن سطح البحر، فيما يقع الوادي على ارتفاع 900 متر. كان أهالي الوادي من آل الحدشيتي يقضون صيفهم في البرغش حيث تسرح قطعانهم من الماعز، ويزرعون أراضيها “متلهم متل هالناس”، وفق فايز، في إشارة إلى زراعة الحشيشة في السبعينيّات وما قبلها قبل منعها في التسعينيّات.

نسأل فايز حنّا الحدشيتي عن علاقته بوادي الرّطل بعد 45 سنة عن النزوح عنه نهائياً. يبدأ الرجل بالحديث عن علاقته برفاق الطفولة والصبا “لمّن رجعنا ع حدشيت سمّونا هون ‘البقاعية’ ونحن منفتخر بالتّسمية كما يقول أولادي”. يروي كيف ما زال آل علّوه يهاتفونهم عند موت أحد سكان الوادي “ونحن منروح نشاركهم أحزانهم وهنّ بيجوا ع عزواتنا”. أمّا في حال قصد الهرمل لاستخراج إخراج قيد، فلا يمكنه العودة إلّا بعد ثلاثة أيام “أوقات إذا مستعجل ما بخلّي حدا من رفقاتي يعرف، ما بيخلّوني فلّ”، يقول الرجل فيما يسبقه دمعه “بحنّ كتير لحياتنا بالوادي” يختم بصوته المتهدّج.

– المفكرة القانونية 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!