سفربرلك .. كارثة الجوع في ظل الحرب الكبرى.. هل جــاع جبــل عامــل ؟
صدى وادي التيم – لبنانيات/
دراسة من اعداد الدكتور ديب هاشم:
أيام المجاعة، أو أيام سفربرلك كما يطلق عليها المعمرون ممن شهد تلك الفترة العصيبة من فترات الحرب الكونية الأولى .. فيها حصد الموت أرواح البشر .. وكثر المتسولون والمتضورون جوعا على أرصفة الطرقات .. وأكل الناس حتى ما بقي من آثار القمح والشعير في روث الحيوانات..
هذا ما حفظته ذاكرة الأجيال المتناقلة سماعا ومشافهة عبر السنين .. وهذا ما كتب عنه جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأنيس فريحة وتوفيق يوسف عواد .. وغيرهم كثير من الأدباء وأصحاب الفكر .. ممن عاصر تلك الحقبة أو أتى بعدها ليروي أخبار ما عاناه آباؤه وأجداده ..
على أن الملاحظة التي لا يمكن تجاوزها تكمن في أن ما روي عن تلك الحقبة ينتمي بسواده الأعظم، وفق التصنيف المعتمد في لبنان، إلى كتاب من فئة وطائفة ومنطقة معينة .. وبوضوح أكبر إلى كتاب مسيحيين ينتمون إلى لبنان ما قبل غورو، لبنان المتصرفية، أو جبل لبنان ..
أما ما كتبه أبناء جبل عامل – أو أبناء الملحقات – عن المجاعة فيكاد يكون معدوما، وإن وجد فهو قليل مختصر .. فلماذا هذا النضوب وهذا الشح في التأريخ العاملي لهذه الحقبة المأساوية ؟؟..
رب قائل أن التاريخ العاملي في قسم كبير منه، بل في قسمه الأكبر، ضائع ومضيع، فلماذا الوقوف والسؤال عن حقبة بعينها؟ .. فهذا مثلا الدكتور فيليب حتي يقول في مؤلفه ( تاريخ لبنان ) عن لبنان الجنوبي بأنه ” لم يسجل لنا أحد من أهليه شيئا عن الحياة فيه “(1) ويقول في مكان آخر من نفس الكتاب :” إن حجبا كثيفة تحجب عنا تاريخ الشيعة في لبنان ” (2)، وهذا المؤرخ محمد جابر آل صفا يثبت في كتابـــــــــــه ( تاريخ جبل عامل )(3) تسع صفحات يتحدث فيها عما أسماه ” غموض تاريخ جبل عامل ” .. فإذا كانت هذه هي الحال، فما قيمة الإضاءة على جانب صغير من لوحة كبرى يغلفها الظلام ويكتنف أركانها السواد المطبق ؟
الجواب هنا ذو شقين : أولا، إن ضياع حلقات هامة من تاريخنا السحيق لا يسوغ لنا بأي حال إضاعة تاريخنا الحديث، فالمجاعة حصلت في القرن العشرين لا في الأيام الغابرة، وثانيا : إذا كانت حقبة الجزار وظاهر العمر وناصيف النصار أرخت على يد بعض الشهود – أمثال الركيني وولده – ممن لم يتيسر لهم أن يمتلكوا من عدة التأريخ وأدوات التحليل وإمكاناته سوى النزر اليسير، فما عذرنا وقد شهد النصف الأول من القرن العشرين حركة نشطة في مجال إحياء كتابة التاريخ العاملي على يد علماء أجلاء ؟ نذكر منهم .. الثلاثي الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ظاهر ومحمد جابر آل صفا .. والسيد محسن الأمين وصولا إلى الشيخ علي الزين والسيد حسن الأمين وغيرهم .. علما أن هذه الحقبة شهدت أيضا ولادة مجلة العرفان – على سبيل المثال لا الحصر – مع ما عنته وتعنيه تلك المجلة في مجال حفظ التراث والأدب والتاريخ العاملي .. أليس غريبا أن يستنكف كل هؤلاء عن أن يكتبوا عن المجاعة في جبل عامل بما يعطي تلك المرحلة حقها من الشرح والتدقيق والتمحيص أسوة بمن فعل من المؤرخين من إخواننا المسيحيين ؟ أليس غريبا أن لا نجد في كتاب علامة النبطية الشيخ أحمد رضا المعنون ( حوادث جبل عامل 1914- 1922) (4)، ذكرا للمجاعة رغم حديثه عن حقبة سفربرلك وما حدث فيها من ملاحقة للثائرين على الحكم التركي ؟ .. وأن لا نجد في كتابات المؤرخ الشيخ علي الزين حديثا عن المجاعة سوى بشكل عرضي ؟
أما الشيخ سليمان ظاهر فنراه يتحدث عما جرى في تلك الفترة، في كتيب موجز له تحت عنوان ( صفحات من تاريخ جبل عامل ) ، في بضع صفحات معبرة جدا ولكنها – للأسف – ليست كافية .. وياحبذا لو كان قد استفاض في شرحه وروايته، لأن ما كتبه – مع إيجازه الشديد – أماط اللثام عن بعض المفاهيم الخاطئة السائدة حول المجاعة وأسبابها .. لقد أثبت مثلا أن هجمة الجراد، وإن كانت مؤثرة، إلا أنها لم تكن سبب المجاعة، بل كان السبب الأساسي سياسة السلطات العثمانية وأنه ” مهما حاولنا أن نعلل أسباب المجاعة، فلا نجد تعليلا صحيحا لها إلا السلطات نفسها، وإلا فإن الأرض لم تخصب خصبها في سنوات الحرب، وخصبها كافل بتمويل ساكنيها وتموين الجيش “(5) . ولو أن الشيخ ظاهر توسع في ما كتبه حول هذا الموضوع لكان بالتأكيد قد وضع النقاط على حروف الكثير من المسائل المشكلة والغامضة ..
ليس المقصود في إثارة هذا الموضوع نكأ الجراح، أو الإحتفاء بذكرى من قضوا ظلما ضحايا تلك الكارثة المروعة، وهم جديرون بذلك، أو رفع الصوت لمطالبة الدول المستعمرة والتي كانت مسؤولة عن الكارثة آنذاك بالتعويض على ورثة الموتى والمنكوبين، علما أن من ماتوا لو كانوا ينتمون لجنس بني إسرائيل لأقيمت لهم حتما النصب التذكارية ولكان أحفادهم لا زالوا إلى الآن يتقاضون تعويضاتهم كما يتقاضى الآن أحفاد اليهود التعويضات من البنوك السويسرية ( فقط لأن بعضها كان يحتفظ ببعض أموال ضحايا الهولوكوست ) ولطولبت تركيا على الأقل بالإعتذار قبل التفكير في الدخول إلى الإتحاد الأوروبي، كما تطالب اليوم بالإعتذار عن مجازر الأرمن ..
نعم، ولكن نسيان الماضي ورفع شعار ( عفا الله عما مضى )، لايصح أبدا ولا يستقيم في معرض الحديث عن تاريخ الأمم وبناء ذاكرتها الجماعية، لا سيما إذا كان السكوت إفساحا في المجال أمام الآخرين لحمل معول التأويل والتفسير وسيلة لهدم المفاهيم وقلب الحقائق كمقدمة لتحويل الضحية إلى جلاد والمقتول إلى قاتل ..
فبعض من كتب عن تلك المرحلة استغل تلك الثغرة لدى العامليين في التأريخ لمرحلة المجاعة، ليقول أن أهل جبل عامل لم يجوعوا، وإن جاعوا فإنما جاعوا قليلا، وأن الحصار التمويني لم يفرض عليهم، وأن الذي جاع هم فقط أهل جبل لبنان – بل المسيحيون منهم فقط دون إخوانهم الدروز -، وأن المسيحيين هم فقط من تعرض لحملات الإبادة من خلال الحصار والتجويع، وأن السكوت عما حصل في هذا المجال إنما كان إرضاء لشعور المسلمين في لبنان الذين كان من الممكن أن يستفزهم حديث إخوانهم المسيحيين عما جرى في تلك الحقبة، في وقت كان المطلوب فيه إرضاء المسلمين وليس استفزازهم ليتجاوزوا تحفظهم على الإنضمام إلى مشروع لبنان الكبير .. فالأمر برمته لا يعدو – بحسب رأي هؤلاء- أن يكون عبارة عن تسوية .. وسكوت مقابل سكوت .. ولكن إذا كان سكوت المسيحيين عن المطالبة بدم 200 ألف ضحية تحقيقا لمشروعهم الذي أنجزوه في إقامة دولة لبنان الكبير .. فعلام ساوم المسلمون ؟؟ وهل سكتوا عن الإنضمام للبنان الكبير محوا لذنب اقترفوه ؟.. وهل انقلبت صورتهم فأصبحوا قاتلين لإخوانهم في الوطن بدلا من أن يكونوا مقتولين معهم وضحايا الجوع والقتل والإرهاب والتنكيل مثلهم ؟؟ .. للأسف هذا ما يحاول البعض أن يروج له ..
وهذه – على سبيل المثال – مقتطفات من مقالة نشرت منذ عقد من الزمن حول المجاعة في جريدة النهار ( عدد الخميس 6 أيار لعام 2004 ) للمحامي والأستاذ الجامعي يوسف معوض تحت عنوان ” خطاب الشهداء توحيدي .. خطاب المجاعة تقسيمي “، حيث يورد معوض ما حرفيته (6) :
– ” ان دراسة صدرت في التسعينات للمؤرخة ليندا شاتكوفسكي شيلشر أفادت بأن جبل لبنان فقد من جراء المجاعة حوالى 200 ألف من ابنائه من اصل خمسمئة ألف من ضحايا الجوع في كل انحاء سوريا الطبيعية.
– تقول المؤرخة شيلشر ان معظم البؤساء كانوا من مناطق جبل لبنان الشمالية، ونستخلص من ذلك انهم كانوا بأكثريتهم الساحقة من المسيحيين. وبمعنى آخر إن كارثة المجاعة لم تلحق الأذى بالنسبة نفسها بالفئات اللبنانية كلها.
– بمقارنة بين جبل لبنان وجبل عامل الخارج عن حدود المتصرفية والذي لم يكن خاضعاً للحصار التمويني الذي فرضه جمال باشا. يخبرنا الشيخ علي الزين بأن قريته جبشيت خسرت بعض الاشخاص الذين ماتوا من الجوع أثناء الحرب الكونية بينما المؤرخ سمعان خازن يشير الى ان 3800 شخص من ضحايا الجوع دفنوا في مقبرة جماعية في زغرتا.
– ان بعض الاصوات ارتفعت وما زالت ترتفع، إن لتبرئة الاتراك من تهمة الجريمة المرتكبة قصداً وعمداً او للتشكيك بحجم الخسائر التي تعرضت لها مناطق المتصرفية، الا ان التصورات الجماعية تعتبر المجاعة وكأنها مسألة مسيحية بحتة ولم نلحظ لها صدى يذكر في أدبيات الكتّاب المسلمين اللبنانيين.
– منذ 1916 طرح السؤال حول ما اذا كان الحصار البري الذي نفذه جمال باشا على جبل لبنان كان بهدف تصفية المسيحيين دون اللجوء الى حملة عسكرية.
– من الملاحظ أن كل الكتّاب الذين اتهموا الاتراك بأنهم دبروا المجاعة هم من المسيحيين… وفي المقابل نلاحظ ان الكتّاب المسلمين هم الذين حاولوا، منذ البدء، إما تبرئة الاتراك او التقليل من مسؤولياتهم او أقله تجاهلوا مسألة المجاعة وضحاياها.
– أن معظم مؤرخي تلك الفترة من شيعة الجنوب ينظرون الى موضوع المجاعة على أنه مؤسف إنما لا يرون فيه مسألة مركزية بل ينظرون اليه كأنه نتيجة ثانوية لاحداث أعظم من ذلك بكثير.
– شعور المسيحيين وتصوراتهم الجماعية لم يشارك بها إخوانهم في بلاد بشارة.
– في حدود الوطن الجديد الذي رسمته فرنسا كان على المسيحيين أن يتناسوا المئتي ألف فقيد وكان عليهم إحياء ذكرى الاربعين شهيداً اي الموضوع المشترك بينهم وبين “إخوانهم المسلمين” في نضالهم ضد الاتراك. او هكذا صُوّر لهم وكأن تسوية ضمنية حصلت بين جناحي البلد وكأن “المارونية السياسية” المزعومة قدمت المئتي ألف فقيد قرباناً على مذبح الوطن، فتنازلت عن إثارة هذه المسألة مقابل رضوخ الطرف الآخر للاندماج في دولة لبنان المستحدثة.
– المجاعة التي نزلت بالمسيحيين دون غيرهم لم يكن من الممكن اعتمادها قاسماً مشتركاً جامعاً بين كل الطوائف خلافاً لقضية الاعدامات ( والمقصود هنا الإعدامات التي قام بها جمال باشا بحق الثائرين على الحكم التركي ). لهذه الاسباب كُتب على ذكرى المئتي ألف فقيد أن تبقى طي الكتمان نوعاً ما، فلم يتسنَّ لها أن تحتل مركزاً وطنياً. لو بقي جبل لبنان ضمن الحدود المرسومة له ايام المتصرفية لنال ضحايا الجوع موقعاً اساسياً في الذاكرة الوطنية وفي ايديولوجيا الدولة.” – إنتهـــــــى كـــــلام معـــــــوض .
إن وقفة فاحصة قصيرة لما أورده معوض من أدلة وبراهين، يمكنها أن تثبت أن معظم ما أدرجه قام على أسس غير متينة، واستنتاجات متعجلة تعوزها الدقة والموضوعية ..
ففي مقارنته بين جبل عامل وجبل لبنان، من الواضح أنه اعتمد على واقعة جزئية يتيمة اقتطعها من سياقها، وبنى عليها استنتاجات عامة، ومن المعلوم أن تمحيص التاريخ على هذا النحو يفضي إلى الكثير من الإرباك والتشويش وضياع الحقائق .. لقد كانت حجته كلاما للمؤرخ الشيخ علي الزين الذي كتب عن بلدته جبشيت إبان المجاعة قائلا أنها خسرت بعض الاشخاص الذين ماتوا من الجوع أثناء الحرب، والأستاذ معوض لا شك يعلم أن أحوال القرى لم تكن متشابهة ومتماثلة في شدة ووطأة الجوع لا في جبل عامل ولا في جبل لبنان، فهناك بعض القرى، في كلا الجبلين، التي قيض لها من أبنائها من نجح في فك وطأة الحصار عنها عن طريق بعض عمليات التهريب الناجحة، وبعض القرى وفق أهلها في إخفاء كميات من الغلال عن أعين السلطات وأزلامها مما ساعدها إلى حد قليل أو كثير في تخطي أزمة الجوع، وبالتالي ليس حال جبشيت هو بالضرورة حال جبل عامل .. ولو شئنا أن نتبع منهج الأستاذ معوض لقلنا أن المجاعة لم تحصل أيضا في جبل لبنان اعتمادا على كلام أورده الدكتور أنيس فريحة عن قريته راس المتن إبان الحرب، حيث يورد في كتابــــــه ” إسمع يا رضا ” ما نصه :” وهب المكارون وهب معهم آخرون، وجلبوا قمحا في الليل من حوران فعادت القرية بندرا مشهورا يؤمه الناس من عواصم البلاد : من بكفيا والشوير وبسكنتا وبيت شباب وعبيه وعين الرمانة، كلهم يأتون إلى ضيعتنا ليشتروا قمحا بالذهب الأصفر . لم يخترق حصار الأتراك سوى أبطال قريتنا . المكارين ” (7).. فهل من العدل أن ننكر المجاعة في جبل لبنان لأن قرية واحدة كرأس المتن تمكن أهلها عبر المكارين من اختراق حصار الأتراك والمجيء بالقمح المهرب إليها من حوران ؟..
على أن الأستاذ معوض، الذي ينوه في مقاله بموقف العلامة الشيخ سليمان ظاهر حيث يقول:” وحدها رواية الشيخ سليمان ظاهر قريبة من الخطاب المسيحي، فالشيخ المذكور يأسف للكارثة ويحمل السلطات التركية مسؤوليتها لأنهم حرموا وصول الحنطة الى جبل لبنان”، نسي أو لعله تناسى ما كتبه الشيخ ظاهر نفسه ( في كتابه – صفحات من تـــاريخ جبل عامل ) عن أوضاع مدينة النبطية – حاضرة جبل عامل- إبان المجاعة، والحصار الذي تعرضت له وعمليات المصادرة التي كان يقوم بها جلاوزة السلطة للمؤن والغلال ، ولو أنه تعامل مع رواية الشيخ ظاهر ككل متكامل لما أمكنه أن يثبت استنتاجه المتسرع الذي استنبطه من كلام الشيخ علي الزين الآنف ذكره .. ولأثبت ما كتبه الشيخ ظاهر عن مشاهداته حيث يقول :” لقد شاهدنا بأم العين ضحايا الجوع تتساقط في الطرق، وفي الأزقة وفي الشوارع، وأنينهم يملأ الفضاء . ورأينا منهم من يتداعى إلى جيف الحيوانات، ويزاحم بعضهم بعضا على اقتطاع قطعة منها يقتات بها . وأدت الحال إلى استمراء كثيرين لحوم الآدميين، واقتناص ضعفاء البنية من الأطفال الهائمين على وجوههم، كما تقتنص الطريدة ” (8) ..
فهل من الموضوعية في شيء أن نأخذ من التاريخ فقط ما يناسب أهواءنا، ثم نشطب على مذبح تلك الأهواء عذابات الناس وآلامهم وذاكرتهم، وهل تستقيم حقا كتابة التاريخ مع تلك الإنتقائية البينة التي لا تأخذ من المشاهد والصور إلا ما يخدم ما تستره من غايات ومآرب ؟؟.. وإذا كان الأستاذ معوض محقا في مجاهدته وكفاحه ضد كل من يعمد للتشكيك بحجم الخسائر التي تعرضت لها مناطق المتصرفية، فمن الذي أعطاه في المقابل حق إنكار معاناة سكان جبل عامل، ومأساة ضحاياه الذين قضوا في حمأة الجوع .. ومن خوله قتل المقتولين منهم مرة أخرى ومحو ما بقي من شواهد قبورهم الدارسة في ذاكرة الوطن ؟..
ثم إذا كان الأستاذ معوض قد استشهد بدراسة أجنبية للمؤرخة ليندا شاتكوفسكي شيلشر ليبني على أساسها استنتاجاته، فإن الإحصاءات التي قامت بها الإرساليات الأجنبية حول الخسائر التي وقعت في لبنان جراء الحرب العالمية الأولى تثبت أن عدد الضحايا في الجزء الجنوبي منه كان مهولا ولا يقل في كل الأحوال عن عدد الضحايا الذين وقعوا في باقي المناطق اللبنانية، وهذا ما يؤكده المؤرخ الدكتور فيليب حتي في كتابه ( تاريخ لبنان ) حيث يورد ما نصه :” وقد قامت الإرسالية الأميركية في جنوب لبنان وفي صيدا بعملية إحصاء للأضرار المادية والخسارة في الأرواح التي وقعت في الأجزاء الجنوبية من لبنان، فتبين لها أن 182 قرية بمساكنها البالغ عددها عشرة آلاف مسكن، وبعدد سكانها البالغ 77 ألف، تهدم فيها 2500 مسكن أثناء السنوات الأربع من سني الحرب، وهلك 33 ألف نسمة . وإن الأربعة والأربعين ألفا الباقين فيهم 16400 فقير معدم و2600 يتيم “(9) .. فهل بعد هذه الإحصاءات التي وردت يمكن التفكير بأن ثمة مؤامرة كانت تستهدف إبادة جزء من سكان لبنان ينتمون لطائفة معينة، في حين كان أبناء الطوائف الأخرى من المسلمين يرفلون – دون غيرهم – في جنة الرفاهية التي أنعمها عليهم بنو عثمان ؟؟ ..
وفي إطار الحديث عن الأرقام، فليس المؤرخون المسلمون هم الذين يشككــــــــون – بالمناسبة – بحجم الأرقام والخسائر التي تعرضت لها مناطق المتصرفية، بل إن الكتاب المسيحيين هم أنفسهم غير متفقين على تقييم موحد لحجم هذه الخسائر، فالدكتور فيليب حتي نفسه – على سبيل المثال – لا يبدو أنه يوافق على رقم ال200 ألف ضحية الذي أوردته شيلشر في دراستها، حيث يورد في ( تاريخ لبنان ) نقلا عن كتاب جرجس المقدسي ( أعظم حرب في التاريخ، ص 59 ) ما نصه :” وكما قلنا آنفا، بلغت خسارة لبنان في الأرواح مئة ألف نسمة من أصل 450000 ” .(10).
ليس غريبا في لبنان، على أي حال، تشتت الأرقام وتباينها تبعا لمقتضيات التوازن الطائفي، حتى لقد أوقف هذا التوازن عجلة الزمن وأرقامه عند الإحصاءات السكانية التي جرت عام 1932 خشية طغيان الطوائف الأكثر خصوبة وقدرة على التوالد، ولكن الغريب أن يسعى الساعون إلى طرق أبواب المقابر بحثا عن تغليب بعض الاتجاهات الطائفية في رسم مسار التاريخ ، لكأن الموتى الذين لم يشفع لهم انتماؤهم الطائفي في مواجهة مصيرهم المحتوم لم يكفهم ما عانوه من ألم الجوع القاهر قبل تسليم الروح حتى انبرى من ينفخ في أبواق التشكيك منكرا عليهم رقدة الأبدية فأراد أن يخضعهم للمساءلة حول جوعهم وموتهم، وهل كان هذا الجوع مسيحيا أم مسلما عل تلك المساءلة تعيد تنسيق الحسابات الطائفية بمفعول رجعي يكبح جماح بعض الذين راحوا يتوالدون بلا حساب غير عابئين بمتاريس الطوائف وخطوطها الحمراء ..
لست أنكر في ما كتبته هنا ضرورة الرجوع إلى الماضي لأخذ العبر، ولاستلهام الدروس التي تحصن المجتمع بالرؤيا الواضحة في مواجهة المستقبل، ولكني أنكر الرجوع الإنتقائي الهادف إلى التقاط الصور المجتزأة، ولكي تكتمل اللوحة بتفاصيلها الحقيقية، أرى أنه قد آن الأوان لكي يشحذ أولئك الذين تصدوا للتنقيب في تاريخ جبل عامل همتهم، لرفع غيوم الضباب عن مرحلة عصيبة من مراحل تاريخه، مرحلة المجاعة، لكي تنجلي صورتها الصحيحة التي تحكي حقيقة ما جرى .. حتى ولو كانت تلك الصورة الصادقة مفعمة بالمرارة ..
المصادر :
– (1) حتي . فيليب، تاريخ لبنان، تر.أنيس فريحة، ط2، دار الثقافة، بيروت، لات، ص 495 .
– (2) المصدر نفسه، ص 498 .
– (3) آل صفـــا، محمد جابر، تاريخ جبل عامل، ط2، دار النهار، بيروت، 1981. ( من ص15 إلى ص 23).
– (4) رضا، أحمد . مذكرات للتاريخ – حوادث جبل عامل 1914-1922، ط1، دار النهار، بيروت، 2009 . تحقيق منذر جابر .( ص 34 ).
– (5) ظاهر، سليمان، صفحات من تاريخ جبل عامل، ط1، الدارالإسلامية، بيروت، 2002 .( ص54).
– (6) جريدة النهار، العدد الصادر في 6 أيار 2004، مقالة للأستاذ يوسف معوض بعنوان ” خطاب الشهداء توحيدي .. خطاب المجاعة تقسيمي ؟”.
– (7) فريحة، أنيس . إسمع يا رضا، ط 3، دار المطبوعات المصورة، بيروت، 1973، ص 201 .
– (8) ظاهر، سليمان . مصدر سابق، ص 54 .
– (9) حتي، فيليب . مصدر سابق، ص 592 .
– (10) حتي، فيليب . مصدر سابق، ص 592، نقلا عن المقدسي .