“الجهد الضائع ودروب الضلال” قصة أكرم سريوي المتفوق خارجاً والمهمش في وطنه

صدى وادي التيم – متفرقات /
سأختصر القصة قدر الإمكان وآمل أن لا تدمع عيونكم في نهايتها لأنني سأفعل
دخلنا إلى قاعة الصف وكان صديقي ورفيقي الدائم فريد يُخبرني بطرائفه المعتادة ، ودخلت المعلمة لكنه تابع حديثه وكأنه لم يلاحظ وجودها ، فأغضب سلوكنا معلمة الرياضيات الشابة ، ووجهت لنا إنذاراً حاداً أوقف سرد الحكاية ، لكنه أيقض بداخلي رغبة بردّ الإعتبار .
كانت ناتاليا شابة سوفياتية جميلة بملامح عربية ، ولو لم تتكلم لظننتها من بيروت أو دمشقية . ومثل جميع المعلمات صغيرات السن ، كانت تُعامل التلامذة الضباط بشيء من الفوقية الضرورية لإثبات الذات ، وزاد في كبريائها أن والدها قائد كلية بيريفالنا العسكرية قرب مدينة سمفروبل في شبه جزيرة القرم . أما هي فاختارت التعليم في كلية اوديسا العسكرية العليا ، لجمال تلك المدينة الساحرة ، التي تبدو للرائي من بعيد ، كعروس جلست ترتاح على ضفاف البحر الأسود .
بعد انتهاء الدرس قصدت المكتبة ورُحتُ أبحث بين كتب الرياضيات ، وعثرت على كتاب «الرياضيات للعباقرة» ، وأخذت الكتاب الذي بدا عذرياً لم يلمسه أي طالب من قبل ، وهو كتاب مسائل معقدة ، وذهبت أتصفحه بشغف عاشق ، فلطالما أحببت علم الرياضيات ، وعملت أستاذاً لهذه المادة قبل سفري .
بعد يومين وعند دخولنا الصف ، طلب فريد من ناتاليا حل مسألة ، كنت قد صورتها من كتابي السرّي . ولم تُدرك المسكينة أنه فخ ، لأن فريد قلّما يهتم بحل المسائل . فوافقت وسارعتْ إلى اللوح تكتب حتى كاد يمتلئ ، ولم تصل إلى نتيجة ، وأعادت الكرّة مرات عدة دون جدوى ، فتراجعت قليلاً وأطرقتْ تُفكّر . وبالتفاتةٍ بسيطة أدركت متأخرة أنني صاحب الفكرة وقالت بغضب : إذا كنت تستطيع حلّها تفضّل؟
أخذت الطبشورة من يدها ، وبعنجهية المنتقم محيت كتاباتها ، وبدأت الكتابة . وبعد الإنتهاء عدت وجلست مكاني ولم انطق بكلمة . لقد انتهت معركتي .
لكن ناتاليا خافت من انتشار الخبر ، فذهبت إلى قسم الرياضيات ووزعت المسألة على جميع الأساتذة ، وبعد أن علمت أن الجميع يتخبط في الحل ، أخبرتهم أن طالباً لبنانياً قام بحلها في وقت قصير .
تم استدعائي في اليوم التالي ودخلت بين عدد كبير من معلمي الرياضيات ، الذين راحوا يرشقونني بشتّى أنواع الأسئلة ، لكن مديرة القسم السيدة لودميلا لم يروقها ما حصل ، وقالت إذا كنت ذكي كفاية فلماذا لا تُنجز سنتين بسنة واحدة .
وطبعاً لم يكن بوسعي رفض العرض وقلت أنا جاهز لكن كيف ؟
كتبت لودميلا طلباً ووقعته انا دون أن أحسب العواقب وبعد يومين ، حضرت لجنة من الأساتذة وأجرت لي امتحاناً صغيراً وتقييماً عاماً ، ثم أُرسل الطلب إلى موسكو .
مضت عدة أسابيع ، حتى وصلت الموافقة من القيادة في موسكو ، وعيّنوا لجنة من الأساتذة لإجراء الأختبارات خلال مدة شهرين .
بدأت مرحلة الجد والتعب ، فالمواد عديدة «٢٢مادة» ونظام الكلية محدد بخمس سنوات فكانت الكتب كثيرة ، وتراكمت جبلاً من الصعاب على طاولتي ، سهرت طويلاً ودرست قرابة ثماني عشرة ساعة يومياً ، فليس من السهل إنجاز برنامج سنة كاملة خلال شهرين وباللغة الروسية أيضاً .
انتهت الأختبارات في منتصف كانون الاول ، وتم ترفيعي إلى السنة الثانية ، وأُلحِقتُ مع مجموعة ضباط من كوبا ، وكانت البرامج قد أُنجِز قسم كبير منها ، وهكذا لم تنتهِ معاناتي .
دخلتُ الصف الجديد وكانت سوسلينا استاذة مادة «مقاومة المعادن » ، وهي تختلف عن ناتاليا وتفوقها خبرة ، وحائزة على ميدالية لينين للعلوم ، ورغم علمها بسبب ترفيعي ، تعاملت معي بعنجهية ، عكس ملامح وجهها اللطيف الذي يحمل أصولاً سمراء ممزوجة بالجمال السلافي الأشقر ، فهي سوفياتية وجذورها يهودية ، ولا تُخفي إزدراءها للعرب ووصمهم بالتخلف والغباء ، وتقول أن جل همهم ملاحقة النساء .
قررت متابعة التحدي وبحثت عن عدد من الكتب والمراجع، وبعد نصف شهر تقريباً كان موعد امتحان النصف الاول من السنة تمكّنت خلاله من تحقيق نتائج ممتازة ودرجة تفوّق أقنعت سوسلينا وجعلتها تُغيّر رأيها ، وبعد مدة قصيرة أصبحنا صديقين ، وطلبت مني مشاركتها بعض الأبحاث العلمية ، وصارت تُوكل إليّ شرح بعض النقاط لزملائي ، وقالت مرة ممازحةً :أشك أنك عربي . فأجبتها لكني واثق أنّكِ عربية أُنظري إلى المرآة.
تخرّجتُ من الكلية في صيف ١٩٩١ قبل رفاقي بسنة . وحضر نائب وزير الدفاع السوفياتي آنذاك ، وكان المتخرجون من ٢٤ دولة صديقة للاتحاد السوفياتي ، تابعوا دراستهم في الكلية لمدة خمس سنوات .
كان الإحتفال مهيباً فالجيش السوفياتي كان حريصاً على إظهار أقصى درجات الدقة ، والإنضباط ، والعظمة ، فكيف اذا كان الإحتفال يحضره هذا العدد الكبير من الوفود الدولية .
في بداية الإحتفال بعد التهنئة قال لي الجنرال باغاتوف هذه اول مرة في الاتحاد السوفياتي ، نمنح فيها وسام التفوق لطالب أجنبي ، ثم قلّدني ميدالية الصداقة ، ووسام المدرعات ، وتوجهت برفقته فوضعنا باقة ورد على تمثال لينين ، وبدأ بعدها تخريج الضباط .
طلب إليّ السوفيات البقاء والخدمة في جيشهم ، فلطالما اهتموا بمراكزهم العلمية التي صنعت مجدهم العظيم . ولكن بعد مدة عدت إلى لبنان لعدة أسباب ، وكانت الحرب الأهلية قد وضعت أوزارها ، وأمِل اللبنانيون إعادة بناء وطنهم .
رفضت الدولة اللبنانية الأعتراف بشهادات عسكرية صادرة عن الاتحاد السوفياتي الشيوعي ، وبسبب التوازنات الطائفية ايضاً ، اضطررت مع رفاقي الذين تابعوا الدراسة هناك ، إلى دخول المدرسة الحربية اللبنانية .
دخلت على مضض ، وكنت أنتظر مرور الوقت وأعدُّ الأيام التي أصبحت بالنسبة لي دون معنى . فأنا تعلّمت درساً قاسياً في الحياة ، وشعرت كمن يسير على دروب الضَلال ، في وطنٍ ضاعت فيه كل الدروب ، لتلتقي على التعصّب والفساد ، وتفترق عند حُب الوطن واحترام الأنسان ، ليصبح الوطن أوطاناً لا بل أشلاء وطن .
ففي لبنان لن يسألك أحدٌ عن شهاداتك أو كفاءتك ومعلوماتك ، فهذا لا قيمة له . سيسألونك فقط عن طائفتك ، ومذهبك ، ومنطقتك ، وعائلتك اولاً . ومثل معظم الدول العربية ، ستصل الى أعلى المراتب ، وتتبوّأ أفضل المراكز ، إذا كان لديك ما يكفي من الواسطة ، والقدرة على التملق .
فهل يمكن ان نسأل بعد لماذا نحن دول متخلفة ؟ ونضحك على أنفسنا ايضاً ونسميها نامية ؟
مثلي آلاف الشباب اللبناني والعربي من الذين هاجروا وحققوا المستحيل لكن رفضتهم أنظمة بلادهم العفنة ، وعانوا جُرح الوطنية الزائفة ورداء العروبة المهترئ ، في ظل أنظمة الجهل وقبلية التفكير والسلوك ، التي يصح فيها ما قاله ابو الطيب
وأخو الجهالةِ في الشقاوة ينعمُ .
فالدمعةُ ليست على جهدي الضائع وهذه القصة التي يعرفها الكثيرون وكل رفاقي الذين كانوا معي وظُلموا أيضاً ، فلقد مضى ما مضى وانقضى . لكن الدمعة تبقى على وطنٍ ما زال شعبه وشبابه يعاني فساد الحكم والحكام ، والإساءة إلى العروبة والقِيم والإنسان ، ويسير من سيّء إلى أسوأ ، ومستقبل ابنائنا قاتم ، فالفجر لم يبزغ بعد ، وعليهم الصبر ومكابدة مآسي هذه الظلمة الدهماء .
 بقلم : اكرم كمال سريوي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى