أوبئة الثلاثينات: الحجر في المغارة والكلس في التوابيت

بتاريخ 13 كانون الثاني عام 1934، أصدر قائمقام صور جان عزيز، بناء على كتاب طبيب قضاء صور صبحي سالم، قراراً يقضي بالحجر الصحي لأشخاص خمسة مصابين بداء الجدري المعدي، وكانوا من آل نعيم وأيوب، في قرية سلعا إلى الشرق من صور.

أوبئة قديمة

وبحسب الوثيقة المحفوظة لدى الباحث الدكتور حسن دياب وأوردها في كتابه “تاريخ مدينة صور الحضاري”، أن الخمسة: هم علي محمود نعيم، زينب علي نعيم، فاطمة درويش أيوب، فاطمة علي نعيم، وحسن نعيم. وحُجِر عليهم في مغاور ببلدة جويا القريبة من قريتهم. على أن يظلوا تحت المراقبة في محجرهم مدة 15 يوماً، خوفاً من نشرهم الوباء بين الأهلين. وكان داء الجدري منتشراً حينذاك على نطاق واسع في المنطقة. وتضمن قرار حجر الخمسة المصابين تقسيم قضاء صور إلى مناطق صحية أربع: مدينة صور، منطقة علما الشعب، منطقة جويا، ومنطقة تبنين – بنت جبيل.

كان هذا الإجراء واحداً من إجراءات وزارة الصحة وتدابيرها المعتمدة أيام الانتداب الفرنسي، في حالات انتشار الأوبئة المعدية في ثلاثينات القرن العشرين وأربعيناته، ومنها البرداء، أي الملاريا، والجدري (دفتريا)، والحميرة، والحصبة، والشهقة الديكية (الخانوق)، والزحار (الديزنتاريا أو الإسهال الشديد)، والتراخوما (مرض يصيب العيون)، والسحايا الدماغية، وحمى التيفوئيد.

التعقيم بالكلس
وفي كتاب آخر مطبوع على الآلة الكاتبة يحمل الرقم 1279 – أرسله القائمقام عزيز إلى محافظ الجنوب في 27 أيار عام 1940 – يرد ان رقيّة ابنة مصطفى محمود ماجد، من بلدة خربة سلم، والمصابة بمرض السحايا الدماغية، قد توفاها الله بتاريخ 16 الجاري (أيار)، واتخذت التدابير الصحية للدفن، وسيبقى النطاق الصحي قائماً حول بيتها مدة خمسة عشرة يوماً. 

وتبع هذا الكتاب آخر صادر عن طبيب الحكومة فيليب فرحات، وموجه إلى قائمقام في صور، يطلب فيه: دفن المتوفاة سريعاً ووضع الكلس حول جثتها في التابوت أو النعش، وفي القبر أيضاً. ويحذر الكتاب من اختلاط سكان بيت الميتة بسواهم من أهالي البلدة، قبل حضور طبيب المحافظة الذي يجب إعلامه بالحادثة سريعاً، ليقوم بالتطهير و”التعقيمات” اللازمة للبيت والسكان، ويشمل ذلك غسل الثياب والأوعية التي استخدمتها المصابة، بالماء الغالي وطرش جدران البيت بالكلس.

الهواء الأصفر
في هاتين القريتين (سلعا وخربة سلم) يتذكر أهالي كثيرون الحادثتين اللتين توارثوا خبرهما عن أجدادهم وآبائهم. وتزايد اليوم استذكارهما مع سريان أخبار وباء الكورونا والحجر الصحي والمنزلي، واتشارها في لبنان والعالم.

ويروي م. نعيم (من سلعا) قائلاً: “أظن أن أياً من الذين حُجِر عليهم عام 1934 لم يعد على قيد الحياة. وقلة من الأهالي لا تزال الحادثة في أذهانهم، بعدما سمعوا خبرها من كبار السن.

وتتذكر الحاجة زينب من بلدة طيردبا قرب صور الأمراض المعدية التي كانت تتفشى في العقود الماضية، وخصوصاً وباء الصفيرة المعدي المعروف بالهواء الأصفر. وهو فيروس ينتقل إلى البشر عن طريق تناول طعام أو شرب مياه ملوثة ببكتيريا.

وتعود إلى أكثر من 60 سنة خلت إصابة ابن جار الحاجة زينب محمد (اسم مستعار) ابن السنوات العشر، بهذا الداء، فأُدخل الحجر الصحي في مستشفى الكرنتينا La Quarantaine في بيروت، والذي انشأه ابراهيم ابن محمد علي باشا في الثلاثينات من القرن التاسع عشر. وتعافى محمد من وباء الصفيرة. وهو حتى اليوم يمارس حياته بشكل طبيعي.

تعقيم بالمازوت
وتابعت الحاجة روايتها: “كنا نمنع أولادنا من الاختلاط بجيراننا، خوفا من انتقال العدوى إلينا”. ويلفت الباحث دياب إلى أن النظام الصحي في ذلك الوقت كان فاعلاً.

وكانت الوزارة المعنية والهيئات الرقابية لا تترك شاردة أو واردة إلا وتتدخل فيها وتضبطها. والمحفوظات التي بحوزته تشير إلى أن برك المياه الكبيرة (برك جمع مياه الأمطار في قرى جبل عامل) كانت توضع فيها كمية من مادة المازوت مرة كل أسبوع، لمحاربة وباء البرداء (المالاريا).
أما الآبار المنزلية فكانت تضاف إليها مادة المازوت مرة كل أربعين يوماً. وذلك بإشراف المخاتير والبلديات التي كان عددها قليلا آنذاك. وكانت وزارة الصحة توزع مازوت تعقيم المياه مجاناً، إلى جانب الكينا لمكافحة وباء البرداء. أما القطران فيوزع على مصابي داء التراخوما.

حسين سعد – المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!