في ذكرى وفاته : سلطان باشا الأطرش… قامة خالدة في نفوس الأجيال

صدى وادي التيم – رأي حر بأقلامكم/

قامات خالدة وإن غابت فهي ستبقى في نفوس الأجيال أبد الدهر، ففي الذكرى التاسعة والثلاثين لرحيل القائد المناضل البطل سلطان باشا الأطرش، نستذكره رحمه الله بسيرته وبطولاته ووصيته

فقد ولد البطل الهمام والأسد الضرغام المقدام والغضنفر الشُّجاع عطوفة الباشا سلطان الأطرش في بلدة القريّا، في محافظة السّويداء، منطقة صلخد، في بلاد الشام في العام 1888 وتوفي في 26 آذار 1982

 نشأ وترعرع لدى عائلة الأطرش المعروفيّة الشَّهيرة، والده ذوقان بن مصطفى بن إسماعيل الثاني مؤسس المشيخة الطرشانية 1869، كان مجاهداً وزعيماً محلياً قاد معركة ضارية في نواحي الكَفر عام 1910، وهي إحدى معارك أبناء الجبل ضد سامي باشا الفاروقي، والتي كانت تشنّها السلطنة العثمانية على جبل الدروز لكسر شوكته وإخضاعه لسيطرتها، أعدمه الأتراك شنقاً بسبب تمرده عام 1911. أماّ والدة سلطان فهي شيخة بنت إسماعيل الثاني

هو كبير إخوته علي ومصطفى وزيد، وله أختان سمّية ونعايم تزوج في سن التاسعة عشرة من عمره من ابنة عمه فايز غازية لكنها توفيت بعد فترة قصيرة دون أن يرزق منها أطفالاً و بعد عودته من الخدمة الإجبارية تزوج من ابنة الشيخ إبراهيم أبو فخر من بلدة نجران واسمها تركية ورزق منها جميع أولاده الذكور: طلال وفواز ويوسف وجهاد توفوا جميعاً ومنصور وناصر وطلال والإناث: غازية وبتلاء وزمرد وتركية ونايفة وعائدة ومنتهى

التحق سلطان باشا الأطرش بالعسكر العثماني وأدّى الخدمة العسكرية للدولة العثمانية في الأناضول ومُنِح لقب باشا تقديراً له من السُّلطات العثمانية على خدماته في دول أوروبا الشَّرقية (البلقان)

 وبعد إنتهاء خدمته كانت الحرب العالمية الأولى قد حطّت اوزارها. والظاهر انه أراد التّصدي للوجود الفرنسي والبريطاني فعاد إلى الشام وبدأ ينشط بالاتصال بالحركات العربية . وبفضل علاقته الدائمة بدمشق صارت القرياّ ملجأ ومعقلاً للمناضلين الملتحقين بالثورة العربية في العقبة

وكان سلطان الأطرش أول من رفع علم الثورة العربية على أرض الشام (سوريا) قبل دخول جيش الملك فيصل، حيث رفعه على داره في القرياّ، وكان في طليعة الثوار الذين دخلوا دمشق سنة 1918، بعد أن رفع العلم العربي في ساحة المرجة فوق دار الحكومة بدمشق، منحه الملك (فيصل الأول) لشجاعته لقب (باشا) عام 1918، في الجيش العربي

 وبعد تقسيم الشرق الأوسط وبلاد الشام إلى خمس فيدراليات قد طرح عليه الفرنسيون حكم جبل الدروز في محافظة السويداء بصفته الزعيم الدرزي الأبرز يومها. رفض رفضاً قاطعاً وكان مع التيار الإسلامي العربي الذي يسعى سعياً دؤوباً لإنشاء دولة عربية سورية بحجة الوحدة والرفض للتجزئة والاستعمار

في تموز 1920، جهز سلطان باشا الأطرش قوات كبيرة لنجدة يوسف العظمة في ميسلون ووصل مع فرسانه إلى براق جنوب دمشق، إلا أنه سمع هناك نبأ حسم المعركة وانكسار الجيش العربي واستشهاد القائد يوسف العظمة وزير الدفاع

 عارض سلطان إنشاء الدولة الدرزية عام 1921 وقبل ذلك وبعده عارض بشدة الانتداب الفرنسي، فأرسل رفاقه للحاق بالملك فيصل الأول قبل أن يغادر على الطراد البريطاني في (حيفا)، برسالة شفهية نقلها حمد البربور إلى الملك فيصل الأول مفادها، دعوة الملك إلى السويداء- جبل العرب لإقامة الدولة العربية هناك والاستمرار بالمقاومة. إلا أن جواب الملك فيصل كان: “قل لسلطان، فات الأوان”.ء

 

الثورة السورية الكبرى

سير وأحداث الثورة

سعى الكولونيل كاترو الذي أوفده الجنرال غورو إلى جبل العرب إلى عزل الدروز عن الحركة الوطنية السورية، وأبرم في 4 آذار عام 1921 معاهدة مع العشائر الدرزية نصت على أن يؤلف جبل الدروز وحدة ادارية خاصة مستقلة عن دولة دمشق لها حاكم محلي ومجلس تمثيلي منتخبان، مقابل اعتراف الدروز بالانتداب الفرنسي، ونتيجة المعاهدة عيّن سليم الأطرش كأول حاكم درزي للجبل

لم يرتح سكان الجبل للإدارة الفرنسية الجديدة، وحدث أول صدام معها في تموز من عام 1922 باعتقال المجاهد أدهم خنجر الذي كان قادماً إلى سلطان باشا الأطرش حاملاً رسالة إليه، وقد اعتقله الفرنسيون بتهمة اشتراكه في الاعتداء على الجنرال غورو في حوران، وطلب سلطان الأطرش من القائد الفرنسي في السويداء تسليمه أدهم خنجر فأعلمه بأنه في طريقه إلى دمشق، فكلف الأطرش مجموعة من أنصاره بمهاجمة القافلة المسلحة المرافقة للمعتقل، ولكن الفرنسيون تمكنوا من نقله إلى لبنان وفي 30 أيّار عام 1923 أعدموه في بيروت

وقد أقدم الفرنسيون على تدمير منزل سلطان باشا الأطرش في القريّا في أواخر آب عام 1922 رداً على هجومه على قواتهم، وعندها قاد الأطرش الثوار الدروز طيلة عام في حرب ضد القوات الفرنسية، واستقدمت فرنسا قوات كبيرة للقضاء على الثوار مما اضطر الأطرش إلى اللجوء إلى الأردن في أواخر الصيف من عام 1922

وفي 11 تموز عام 1925، أرسل المفوض السامي الفرنسي موريس بول ساراي رسالة سرية إلى مندوبه في دمشق يطلب منه أن يستدعي بعضاً من زعماء الجبل بحجة التباحث معهم بشأن مطالبهم ليقوم بالقبض عليهم وإرسالهم منفيين إلى تدمر والحسكة، وقد نفذ المندوب هذه الخدعة الدنيئة فعلاً ومن الزعماء الذين تم نفيهم إلى تدمر (عقلة القطامي، الأمير حمد الأطرش، عبد الغفار الأطرش، نسيب الأطرش)، و(برجس الحمود، حسني عباس، علي الأطرش، يوسف الأطرش، علي عبيد) نفوا إلى الحسكة

ونتيجةً للسياسات والممارسات الفرنسية أقدم سلطان باشا الأطرش على إعلان الثورة في 21 تموز عام 1925، من خلال إذاعة بيان سياسي وعسكري يدعو الشعب السوري إلى الثورة على الانتداب الفرنسي، وجاء فيه

          أيها العرب السوريون تذكروا أجدادكم وتاريخكم وشهداءكم وشرفكم القومي، تذكروا أن يد الله مع الجماعة، وان إرادة الشعب من إرادة الله، وان الأمم المتمدنة الناهضة لن تنالها يد البغي

 لقد نهب المستعمرون أموالنا واستأثروا بمنافع بلادنا، وأقاموا الحواجز الضارة بين وطننا الواحد، وقسمونا إلى شعوب وطوائف ودويلات، وحالوا بيننا وبين حرية الدين والفكر والضمير وحرية التجارة والسفر حتى في بلادنا وأقاليمنا

 إلى السلاح ايها الوطنيون إلى السلاح تحقيقاً لأماني البلاد، إلى السلاح تأييداً لسيادة الشعب وحرية الأمة، إلى السلاح بعدما سلب الأجنبي حقوقكم واستعبد بلادكم ونقض عهودكم، ولم يحافظ على شرف الوعود الرسمية، وتناسى الاماني القومية

 

بدأ الأطرش بشن الهجمات العسكرية على القوات الفرنسية وأقدم على حرق دار المفوضية الفرنسية في صلخد ثاني أكبر مدينة في الجبل بعد السويداء واحتلها، وفي أوائل أيلول من عام 1925 هاجم الأطرش قوة فرنسية في بلدة الكفر بقيادة الكابتن نورمان وفتك رجاله بها ولم يفلت من الفرنسيين إلا بضعة أفراد، ولم يزد عدد الثوار عن مئتين بينما تجاوز عدد الجنود المائتين والستين بينهم عدد كبير من الضباط الفرنسيين، وقتل في المعركة أربعون ثائراً منهم مصطفى الأطرش شقيق سلطان باشا الأطرش

جن جنون ساراي للهزيمة التي وقعت بقواته، وأمر بتجهيز حملة كبيرة لتأديب الثوار يتجاوز عددها السّتّة آلاف جندي وعلى رأسها الجنرال ميشو وهي مجهزة بأحسن العتاد وأحدث الآلات ومدعومة بالطائرات الحربية، وفي اليوم الأول من آب عام 1925 اشتبكت الحملة مع قوات الثوار في بلدة ازرع وكان عدد الثوار يقارب الثلاثة آلاف وانهزم الثوار في المعركة. وما إن حلّ المساء حتى هاجم الثوار مؤخرة القوات الفرنسية حيث الذخائر والمؤن واستولوا عليها وقتلوا الكثير من الجنود الفرنسيين، وفي صباح اليوم التالي تقدم مئة وسبعة عشر مجاهداً من السويداء ولحق بهم أربعمائة مجاهد من أهالي مجدل ونجران وسليم وغيرها من القرى القريبة، واشتبكوا مع القوات الفرنسية في قرية المزرعة، حيث أبيدت القوات الفرنسية ولم يسلم منها إلا زهاء الألف ومائتي جندي فرّوا إلى السكّة الحديديّة في قرية أزرع ليستقلّوا القطار الذاهب إلى العاصمة دمشق، وقتل في المعركة المجاهد حمد البربور من قرية أم الرمان وكان اليد اليمنى لسلطان باشا الأطرش

وفي 20 آب عام 1925 أرسل حزب الشعب وفداً للاجتماع بسلطان باشا الأطرش ومناقشة انضمام دمشق للثورة وضم الوفد توفيق الحلبي وأسعد البكري وزكي الدروبي، وتصادف وجود الوفد مع وجود الكابتن رينو مندوب ساراي الذي كان يفاوض الثوار باسم السلطات الفرنسية لعقد معاهدة سلام واستطاع وفد حزب الشعب اقناع الثوار بعدم التوقيع على المعاهدة، وفي أواخر آب عام 1925 اجتمعت قيادات حزب الشعب ومنهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر مع سلطان باشا الأطرش في قرية كفر اللحف واتفقوا على حشد خمسمائة مجاهد للهجوم على دمشق من ثلاث محاور ولكن هذا العدد لم يجتمع لدى سلطان باشا كما أن القوات العسكرية التي بدء الجنرال غملان بحشدها على طول السكة الحديدية في حوران جعلت قيادات الثوار تُعرِض عن خطة مهاجمة دمشق وتتفرغ للتصدي للحملة الفرنسية،  واتفق الثوار على الزحف باتجاه قرية المسيفرة للتصدي للحملة الفرنسية الجديدة

 وفي 17 أيلول عام 1925 شنّوا هجوماً ليلياً على القوّات الفرنسيّة المتحصّنة فيها وكاد أن يكون النصر حليفهم لولا تدخل الطائرات الفرنسية التي أجبرتهم على الانسحاب، وكانت خسائر الفرنسيين كبيرة تجاوزت التسعمائة جندي علاوة على العتاد والأليات بينما خسر الثوار أقل من مائتي مقاتل، ثم دارت معارك بين الثوار والقوات الفرنسية الزاحفة باتجاه السّويداء واضطر الفرنسيون بعد احتلال مؤقت للمدينة إلى الانسحاب بعد أن قررت قيادة الثورة مد نطاقها إلى الشمال لتخفيف الضغط على الجبل

وفي 18 أكتوبر عام 1925 دخل الثوار دمشق وكان على رأسهم نسيب بك البكري ثم انضم إليهم ثوار الشاغور وباب السلام بزعامة حسن الخراط وبقي الثوار أربعة أيام كاملة سحقوا بها جميع الجنود المعتصمين في المتاريس في حي الشاغور والميدان واضطر الجنود الفرنسيون إلى اللجوء إلى القلعة مع عوائلهم واحتموا بأبراجها

أمر ساراي قواته بضرب دمشق بالمدافع من القلاع، وقد دمر القصف ما يزيد عن ستمائة منزل كما نهب الجنود الفرنسيون المخازن والمحال، وقد وصل لمسامع الثوار أن الجنرال ساراي قدم لدمشق لزيارة قصر العظم في البزورية، فقرروا خطفه، ولذلك دخلوا المدينة من جهة الشاغور ووصلوا إلى القصر لكن ساراي كان قد غادره على وجه السرعة، فاشتبك الثوار مع الجنود الفرنسيين واشتعلت النيران في القصر لضراوة المعركة، واستمرت المعارك بين ثوار الغوطة والقوات الفرنسية، فحدثت معركة الزور الثانية في 17 تشرين الثاني 1925، ومعركة يلدا وببيلا في 19 تشرين الثاني 1925، ومعركة حمورة في 17 كانون الأول 1925، ومعركة النبك في 14 و15 أذار 1926

 

في أواخر تشرين الأول عام 1925، كان ثوار الجبل يتجمعون في المقرن الشمالي ثم ساروا باتجاه الغرب فاحتلوا اقليم البلان ثم بلدة حاصبيا دون أدنى مقاومة من الحامية الفرنسية التي فضل قائدها الانسحاب عندما علم بوصول الثوار، ثم توجه الثوار إلى منطقة وادي التيم الاعلى وقرى جبل الشَّيخ اللّبنانيّه بعد أن علموا أن معركة قوية وقعت بين دروز المنطقه قرى عيحا وكفرقوق وراشيّا وبكيفا وعين عطا وتنورة والعقبة وغيرها وبين حاميتها الفرنسية، وبعد قتال شديد تمكنوا  الثوّار الدروز من دخول قلعة راشيّا واحتلالها

دخل الثوّار السوريّون مرحلة الاستنزاف مع امتداد أمد الثورة، وعانوا من نقص الذخيرة والمؤن، وهو ما ساعد القوات الفرنسية على تشديد الخناق عليهم بجلب المزيد من القوات والنجدات المساندة، مما أضطر الثوّار للنزوح إلى الأزرق في إمارة شرقي الأردن، ولم يمكنهم الإنكليز من المكوث طويلاً، فنزح سلطان الأطرش وجماعته من المجاهدين إلى وادي السرحان والنبك في شمال المملكة العربية السعودية، ثم إلى الكرك في الأردن، وقد رفض تسليم سلاحه إلى المستعمِر وحكم عليه بالإعدام

عاد سلطان الأطرش ورفاقه إلى الوطن بعد أن أصدرت فرنسا عفواً شاملاً عن كل المجاهدين إثر توقيع المعاهدة السورية الفرنسية عام 1936، واستقبل سلطان ورفاقه في دمشق في 18 أيار عام 1937 باحتفالات شعبية كبيرة

ومن ذاكرة الثورة ذكِرَ أن المجاهد سلطان باشا الأطرش كان ومع فرقة من الثوّار يعبرون منطقة جبلية وعرة متجهين إلى الأردن، ويقال أنه قد تم نصب كمين لهم من قبل الفرنسيين الذين لم يستطيعوا تتبعهم من دون تغطية لطيرانهم الجوي، وفي ساعةٍ مبكرة فوجئ الثوار بقصف جوي كثيف وعلى حين غرة، فراح المجاهدون ينجون بأرواحهم مختبئين بين الصخور المتناثرة على جانب الطريق، ويذكر أن المجاهد سلطان ظل ممتطياً جواده غير آبهٍ بقصف الطيران الفرنسي وحينما انتهى القصف ظنَّ الثّوار أن سلطان قد استشهد، وإلاّ به من بين الدخان يتراءى على فرسه من بعيد وعلى وقع ذات الخطوات رافماً رأسه وحاضناً بندقيته وكأن قصفاً لم يكن… وما إن رآه الثوار إلا وراحوا يصيحون روح يا بطل الله يحييك… الله أكبر… الله أكبر

كذلك يُذكر أن المجاهد سلطان الاطرش ومعه مجموعة من قادة الثورة لجأوا إلى الشيخ سلطان بن سطام الطيار شيخ قبيلة ولد علي من عنزة ومن قيادات الثورة لقيادة الثورة من مركز بعيد عن مراكز الفرنسيين. وهذا مما يدل على حنكة وذكاء المجاهد سلطان الاطرش. وقد مكثوا لدى القبيلة بضيافة شيخها مدة ستة أشهر تقريبا حتى اكتشفت القوات الفرنسية امرهم فشنت عملية عسكرية برية باءت بالفشل بعد أن تمكن فرسان القبيلة من اقتحام أحد المدافع الذي كان يتحصن خلفه الجنود الفرنسيون فانهزموا. ليعيدوا الكرة بعد ذلك مزودين بالطائرات. وهي من العمليات العسكرية التي ذكرت بالتفصيل في الارشيف الفرنسي

ومن المآثر عن الثورة والثوار بعد الاستقلال طلبت صحفية ألمانية من القائد العام ان يوجز لها البطولات التي اجترحت خلال الثورة فأجابها: لا يوجد على هذه الأرض حجر الا وقلبته حوافر خيلنا، ولا توجد حفنة تراب لم تروَ بدمائنا، ولكل مجاهد فينا قصص كثيرة من قصص البطولة والشهادة والفداء وليست قصة واحدة، ويلزمنا لرويها تاريخاً كاملاً، فكيف يمكن ايجازها

يروي سلطان باشا الاطرش في كتاب (أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش، دمشق، دار طلاس، ط2 2008) انهم حين وصلوا، ثوار الجبل وثوار الغوطة، لفك أسر النساء والأطفال وكبار السن من أهالي الجولان الذين ساقهم حلفاء الفرنسيين إلى منطقة موحلة تسمى (نقعة جمرا) استعاد ثوار الإقليم معنوياتهم وصاروا يزأرون كالأسود ويفتكون بأعدائهم، ويضيف انه من أكثر المشاهد ايلاماً غوص الأطفال والنساء بالأوحال، وتلوث جروح المصابين بالطين، وان أُماً قتلت برصاص الفرنسيين فاقترب منها أحد أقاربها ليأخذ طفلها عن صدرها، فهب ينخي الرجال وينشدهم الأخذ بالثأر وهو يصيح: هذا الطفل يرضع حليباً ممزوجاً بالدم. يذكر ان سبعة من آل علم الدين قضوا في معركة السويداء وهم يتداولون رفع بيرق مدينتهم ولم يسمحوا بسقوطه فسجلوا مأثرة من مآثر البطولة التي لا تمحى

لم يتوقف نضال سلطان الأطرش بعد الثورة، بل شارك أيضاً بفعالية في الاحتجاجات السورية 1945 وكان جبل العرب بتوجيه منه أسبق المحافظات السورية في طرد الفرنسيين إذ طوق أبناؤه مراكزهم وأخرجوهم، وذلك كان بقيادة الأمير حسن الأطرش محافظ الجبل آنذاك، وانتقمت فرنسا لنفسها من انقلاب الجبل هذا وتحرير السويداء بقصف دمشق والسويداء وأنحاء من سورية في 29/5/1945. فكان ذلك بداية خروجهم من سورية، كما دعا في العام 1948 إلى تأسيس جيش عربي موحد لتحرير فلسطين، وبالفعل تطوع المئات من الشباب واتجهوا للمشاركة الفعلية في حرب 1948، واستشهد هناك حوالى 80 شاباً من الجبل

وأثناء حكم الشيشكلي، تعرض سلطان باشا الأطرش لمضايقات كثيرة نتيجة اعتراضه على سياسة الحكم الديكتاتوري، فغادر الجبل إلى الأردن في كانون ثاني 1954، عندما عمّ الهياج أنحاء سورية لاسيما بين الطلبة الذين كانوا في حالة إضراب مستمر، واعتقل العديدون بينهم منصور الأطرش أحد أبناء سلطان الأطرش، فجرت محاولة درزية لإخراجه من السجن أدت إلى اشتباك مسلح، سرعان ما تحولت إلى معركة في جبل العرب، وعاد الأطرش إلى بلده بعد سقوط الشيشكلي

 بارك الوحدة العربية التي قامت بين مصر وسورية عام 1958، ووقف بحزم وثبات ضد عملية الانفصال عام 1961

تفرّغ سلطان باشا في أواخر حياته للنشاطات الاجتماعية والتنمية في الجبل وقد رفض الأطرش أي مناصب سياسية عرضت عليه بعد الاستقلال.قائلاً:” أنا فلّاح ابن فلّاح ولا طمع لي في المناصب.”  و كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قد زار سلطان باشا الأطرش في عهد الوحدة في السويداء

جمعته علاقة قوية ومتينة مع رفيقه بدرب التحرّر والنضال بطل الاستقلال اللبناني عطوفة الأمير مجيد ارسلان، والّذي يسجل له التاريخ انه أول من حقّق نصر عسكري على اتفاقية سايكس-بيكو، عندما قاد معركة الاستقلال في لبنان عام 1943 وعندما قاد قواته وحارب في فلسطين عام 1948 فحرّر المالكية و وصل إلى الناصرة على وقع قرع أجراس الكنائس فرحاً بإنتصاره، ويومها طالب بتأخير توقيع الهدنة لساعات قليلة ريثما يصل بقواته إلى الشاطئ الفلسطيني فيقع حينها اليهود بين فكي كماشة، لكن التخاذل العربي كان أقوى، ووقع العرب الهدنة وحينها أدرك الأمير مجيد ارسلان حجم المؤامرة على فلسطين والعروبة، فتوجه إلى قرى الجليل والتقى بمشايخ وفعاليات الدروز وطلب منهم الصمود وعدم النزوح من أرضهم لأن المعركة هي معركة تهويد الأرض، وهكذا كان فصمد أبناء معروف في بلادهم ولم يسجل لهم وجود في مخيمات اللجوء

توفي سلطان باشا الأطرش 26 آذار عام 1982 وحضر جنازته في 28/3/1982 أكثر من نصف مليون شخص. وقد ألقى رئيس الجمهورية العربية السورية حافظ الأسد نظرة الوداع على جثمان سلطان باشا الأطرش في مضافته في القريا مع رجال الدولة السورية يوم السبت في 27/3/1982. أصدر رئيس الجمهورية حافظ الأسد رسالة حداد شخصية تنعي القائد العام للثورة السورية الكبرى، وأطلق اسمه على ساحة في السويداء.كما أصدر الرئيس حافظ الأسد أمراً بإنشاء صرح يخلد شهداء الثورة السورية الكبرى ويضم رفات قائدها العام في بلدة القريا مقابل دار سلطان باشا الأطرش. وتم تدشينه بمناسبة عيد الجلاء في 17 نيسان 2010. ويوم تشييعه، منحه رئيس لبنان آنذاك وسام الأرز اللبناني. دشَّن الرئيس الرّاحل ياسر عرفات نصبًا تذكاريًا في مدينة رام الله تحيّة وفاء إلى شهداء الحامية الدرزيّة التي أرسلها سلطان باشا الأطرش للدّفاع عن فلسطين والذين سقطوا قرب نابلس

 

وَصيَّة سلطان باشا الأطرش

إخواني وأبنائي العرب

عزمتُ وأنا في أيامي الأخيرة، أنتظر الموت الحَق، أن أخاطبكم مودِّعاً وموصِّيًّا. لقد أولتني هذه الأُمَّة قيادة الثَّورة السُّوريَّة الكُبرى ضد الإحتلال الفرنسي الغاشم، فنهضتُ بأمانة القيادة وطلبتُ الشَّهاده وأَدَّيت الأمانه

انطلقت الثَّوره من الجبل الأشمّ جبل العرب لتشمل وتَعُم، وكان شعارها “الدِّين لله والوطن للجميع” ، وأعتقد أنَّها حققت لكم عزَّة وفخاراً وللاستعمار ذلًّا وانكساراً

وصيتي لكم، إخوتي وأبنائي العرب هي أن أمامكم طريقاً طويلةً ومشَقَّة شديدة تحتاج إلى جهاد وجهاد: جهاد مع النَّفس وجهاد مع العدوّ. فاصبروا صبر الأحرار ولتكن وحدتكم الوطنيَّه وقوَّة إيمانكم وتراصّ صفوفكم هي سبيلكم لردّ كيد الاعداء وطرد الغاصبين وتحرير الأرض. واعلموا أن الحفاظ على الإستقلال أمانة في أعناقكم بعد أن مات من أجله العديد من الشُّهداء وسالت للوصول إليه الكثير من الدماء. واعلموا أن وحدة العرب هي المنعة والقوة وأنّها حلم الأجيال وطريق الخلاص. واعلموا أن ما أُخِذَ بالسَّيف، بالسَّيف يُؤخَذ. وأن الإيمان أقوى من كل سلاح، وأن كأس الحنظل في العزّ أشهى من ماء الحياة مع الذّل وأن الإيمان يُشحَن بالصَّبر ويُحفَظ بالعدل ويُعَزَّز باليقين ويُقَوَّى بالجهاد

عودوا إلى تاريخكم الحافل بالبطولات، الزَّاخر بالأمجاد لأني لم أرَ أقوى تأثيراً في النُّفوس من قراءة التَّاريخ لتنبيه الشّعور وإيقاظ الهمم لاستنهاض الشُّعوب فتظفر بحرّيتها وتحقق وحدتها وترفع أعلام النَّصر. واعلموا أن التَّقوى لله والحب للأرض وأن الحقّ منتصر وأن الشّرف بالحفاظ على الخلق، وأن الاعتزاز بالحريّه والفخر بالكرامه وأن النهوض بالعلم والعمل، وأن الأمن بالعدل وأن بالتعاون قوّه

الحمد لله ثم الحمد لله. لقد أعطاني عمراً قضيته جهاداً وأمضيته زهداً، ثبّتني وهداني وأعانني بإخواني، أسأله المغفرة وبه المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل. أما ما خلّفته من رزق ومال فهو جهد فلّاح متواضع تحكمه قواعد الشّريعة السّمحاء

بقلم ريدان سلمان شقير

             

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى