بعد مضي 200 عام على ولادته: ماذا بقي من ماركس؟

بعد مضي 200 عام على ولادته: ماذا بقي من ماركس؟

شلومو أفنيري*

في هذه الايام تكتمل 200 سنة على ولادة ماركس في 5 أيار/مايو 1818. تأثيره التاريخي غير مشكوك فيه، لكنه يظهر بصور معقدة أكثر مما حتى مؤيديه ومعارضيه مستعدون احيانا للاعتراف بها. من الواضح أن نبوءة ماركس التي تقول بأن الرأسمالية الغربية ستنهار بسبب تناقضاتها الداخلية لم تتحقق، وهذه الحقيقة تعرض على أيدي معارضي الماركسية بشكل خاص والاشتراكيين بشكل عام، كبرهان على ان تحليلاته كانت خاطئة من اساسها. ولكن الحقيقة أكثر تركيبا.

الرأسمالية لم تنهار

لا شك أن الرأسمالية في أيامنا تختلف بصورة أساسية عن تلك التي وصفها ماركس. في عهده لم تكن هناك أية قيود قانونية على قوى السوق: لم تكن قيود على عدد ساعات العمل، لم تكن ايام راحة ولا قيود على عمل النساء والاطفال، لم يكن تأمين صحي وبدل بطالة ومخصصات شيخوخة، النقابات المهنية كانت محظورة حسب القانون، لم يكن للعمال حق انتخاب، الخدمات الاجتماعية لم تكن موجودة. وعندما كتب ماركس «ليس هناك للعمال ما يخسرونه سوى قيودهم» فهذا وصف ظروف الحياة في حينه. الواقع في دول الغرب الرأسمالية اليوم مختلف: هناك قوانين تقيد ساعات العمل وتحدد أيام عطلة ويوجد تأمين صحي ومخصصات شيخوخة وبدل بطالة وتعويضات عن الفصل، يوجد تعليم إلزامي مجاني للجميع وحق انتخاب عام وتوجد نقابات مهنية وأحزاب تنظم أجزاء واسعة من الطبقة العاملة. هناك للعمال ما يخسرونه، ظروف حياتهم، الاجازات المدفوعة والتقاعد وغيرها. التناقض هو أن التغيير الراديكالي هذا في ظروف حياة الطبقة العاملة في الغرب قد حدث، على الاقل في جزء منه، بسبب أن الطبقات الحاكمة فهمت أنه يجدر بها أن تمكن العمال من الاستمتاع على الاقل بجزء من الوفرة. سيكون من المبالغ فيه القول إن الرأسماليين قد قرأوا «البيان الشيوعي»، لكنهم فهموا أنه من أجل منع الثورة، عليهم ضمان أنه ستكون للعمال مصلحة في عدم ضعضعة النظام، وأن هذا سيحدث فقط إذا تحسنت ظروف الحياة. هذا ربما مفاجىء قليلا، ولكن جزءاً من الخطوات التي عدلت الرأسمالية الجامحة التي وصفها ماركس، كان ثمرة مبادرة سياسيين محافظين مثل بسمارك ودزرئيلي، اللذين عن طريق توسيع حق الانتخاب وتطبيق سياسة اشتراكية، مكّنا جزءاً من البروليتاريا من الاندماج في الطبقة الوسطى. بعد الحرب العالمية الثانية تم توسيع هذه السياسة من أجل منع انحراف جمهور العمال نحو الشرعية من جهة، ونحو الفاشية من جهة اخرى.
سخرية القدر هي أنه من هذه الناحية فإن ماركس ساهم بشكل كبير في الحفاظ على الرأسمالية، من خلال تغييراتها التدريجية وتحولها إلى ما يسمى في المانيا «اقتصاد سوق اشتراكية». في كتابه «رأس المال» وكذلك بصورة أكثر في الخطاب الذي ألقاه في أمستردام في مؤتمر الدولية الاشتراكية في 1872، لم يستبعد ماركس احتمال أن توسيع حق الانتخاب وتشريع اشتراكي سيمكنان من اجراء تغيير للرأسمالية بطرق سلمية في دول مثل بريطانيا والولايات المتحدة وهولندا. سياسة ثاتشر وريغان مسّت العديد من الانجازات الاشتراكية تلك، ورغم ذلك لا يمكن وصف رأسمالية اليوم بتلك المفاهيم التي وصفت بها في «البيان الشيوعي»، والتي تتضمن فجوات متسعة وفقراً مدقعاً ومتزايداً.

إسهام ماركس الفكري

بنظرة إلى الوراء يتبين أنه رغم كل ذلك فإن إسهام ماركس تجاوز المجال السياسي المجرد. لا يوجد اليوم أي مجال في العلوم الاجتماعية والقضائية لا نجد فيه بصمات ماركس: النظرية التي تقول إن ما يسمى «قوانين الاقتصاد» هو نتاج الانسان وليس قوانين طبيعية، لأن الانسان هو في المقام الاول نتاج ينتج الوسائل لاشباع احتياجاته وكذلك ايضا الاحتياجات المتغيره نفسه، خلافا للحيوانات الاخرى التي تتغذى بصورة سلبية من الطبيعة.
حقيقة أن الثورة الصناعية فتحت للمرة الاولى أمام الإنسانية، الامكانيات للوفرة التي لم تكن في متناول اليد قبل ذلك، والخطر بأن شروط الانتاج الصناعية التي تقوم على ملكية فردية ستؤدي إلى اغتراب انساني، الذي فقط سياسة اجتماعية يمكنها التغلب عليه، إدراك وجود علاقة بين أحداث تاريخية وسياسية ودراماتيكية وبين البنى الاقتصادية والاجتماعية التي احدثتها، ادراك أن الدين ايضا هو نتاج انساني يعبر عن ضائقات حقيقية، حتى لو كانت الحلول التي يعرضها هي حلول وهمية، الادراك بأن قواعد القانون، بما في ذلك ما يسمى بـ «حقوق طبيعية»، ايضا هذه نتاج انساني وليست أموراً منزلة أو قواعد أبدية، كل ذلك وأفكار كثيرة أخرى في كل مجالات الحياة هي دلائل على الصمات العميقة التي تركها ماركس على صورة عالمنا.
ماركس ليس هو الوحيد الذي توقف عند هذه الافكار. ولكن ازميله التشريحي، حتى عندما بالغ وتوجه نحو التطرف، حوله إلى أصل في الفكر والواقع الانساني. حقيقة أن هذه الافكار تم تبنيها من قبل حركات سياسية قوية، عززت سيطرتها على وعي الانسان، ولاحقا غيرت الخطاب الاكاديمي والفكري العام وإن كانت قوتها السياسية قد تضاءلت. لا يوجد مفكر آخر تراثه يعادل تراث ماركس.

ماركس والقوميات

صعود قوميات عنصرية في الكثير من دول الغرب يضع تحديا لتراث ماركس، مثلما تتحدى الليبرالية الفردانية: التقليدان يعانيان من العمى بخصوص قوة الانتماء القومي. ماركس رأى القومية ظاهرة ما قبل حداثية والتي مصيرها هو الزوال. وهذا ايضا هو موقف الليبرالية المجردة، الذي يقول إنه يوجد فقط بشر منفردين من جهة، وانسانية عالمية من جهة اخرى.
مقابل ذلك، كما اعتقد أنبياء القومية الايطالية الليبرالية، جوزفا ماتسيني، وفي اعقابه اشتراكي مثل موشيه هاس، من مبشري الصهيونية، أن بني البشر يحتاجون إلى مرساة ملموسة من الانتماء، التي يجدونها في لغتهم وثقافتهم وتاريخهم واحيانا في معتقداتهم الدينية. حسب ماتسيني، أنا مواطن هذا العالم بواسطة كوني إبناً شعبياً ووطنياً. السهولة التي انتقلت فيها مجتمعات شيوعية سابقة، من روسيا وحتى هنغاريا، إلى قومية متطرفة تدل على أنه في غياب تعبير شرعي لهوية وطنية معتدلة، فإن مجتمعات كثيرة من شأنها الانجرار نحو قومية عنصرية فاضحة. لنفس السبب فإن الماركسية والليبرالية أيضاً لم تريا في الماضي احتمال صعود الفاشية والنازية.
لقد أحسن اشتراكي صهيوني شاب هو حاييم ارلوزوروف، عندما كتب في 1919، وهو في جيل 19 سنة فقط، أنه على الرغم من أن اجزاء من الطبقة العاملة مغتربون عن الثقافة القومية «العالية»، فان «شراكة المصير وشراكة الحياة القومية توجد لها قوة عمل قوية وجاذبة ايضا في قلب العامل… كما أنه يحب لغة أمه التي سمع بها أغنيات المهد القليلة، والتي بها عاشت وعملت روح آبائه، كما أنه يحب وطنه وشعب وطنه وزعماءه المتنوعين وسماء وطنه، حقول بلاد آبائه ومدنها». حركات اشتراكية مختلفة من الماركسية النمساوية، الصهيونية الاشتراكية وحتى عقيدة القومية لستالين حاولت مواجهة، ليس دائما بنجاح، هذا التحدي الذي له الآن تداعيات بخصوص قدرة الديمقراطيات على الصمود في وجه الموجة القبيحة للقومية وكراهية الأغيار.
ماركس كتب عن فورباخ بأن «الفلاسفة حتى الآن فقط فسروا العالم، لكن القضية الهامة هي تغييره». ماركس حقا غير العالم ـ الثقافي وليس فقط السياسي ـ أكثر من أي مفكر حديث آخر. ولكن لأنه كان مخلصا للمسار الديالكتيكي للتاريخ، ربما لم يتفاجأ من أن قسماً من التغييرات التي أحدثها كان مختلفا عن الذي توقعه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى