من دفاتر الحرب اللبنانية

صدى وادي التيم-لبنانيات/

صبيحة يوم الأربعاء ٨ تشرين الأول ١٩٧٥ سقطت ثلاث قذائف من عيارات مختلفة، الأولى على رصيف بناية “شهريار” مقابل المنشية قرب مسجد جمال عبد الناصر في كورنيش المزرعة والثانية على أرض الملعب البلدي في الطريق الجديدة والثالثة وهي الأهم على فرن “الوفاء” الذي عُرف في ما بعد ب “فرن القذيفة” ويقع في منطقة أبي شاكر تلّة زريق المعروفة بتلّة الأيتام خلف سوق “العصر” في ما بعد.

طلع علينا ذلك الصباح في بيروت بعد ليلة صاخبة بالاشتباكات على محاور خطوط التماس والقصف المتبادل، وأذكر أنني لم أنم تلك الليلة من الأصوات المرعبة والقلق الذي ساورني ليلتها. وقد اكتمل مشهد الرعب بالقذيفة التي سقطت على أرض الملعب البلدي المقابل لمنزل أهلي في شارع الإطفائية (سلمى صائغ) وهرعنا إلى الشرفة لنرى الرمل الأحمر الذي يتميّز به الملعب وقد غطّى سماءه بفعل قوة القذيفة. هنا طلب منّا الوالد (رحمه الله) أن نعود إلى داخل المنزل خوفاً علينا: “القذيفة يا بابا بتعمل شظايا وبتقتل، فوتوا لجوّا”. لم نكن نعلم ذلك أقلّه أنا الذي اختبرت هذه المعلومة صوتاً وصورة.

قذيفة كورنيش المزرعة لم تصلنا معلومات عنها لكن قذيفة الفرن كانت الحدث ذلك الصباح وما تلاه وما تركته من أثر مخيف بقي محفوراً في ذاكرتي حتى اليوم.
ولكون منزل الأهل يقع مقابل ثكنة الإطفائية فقد وصلت الأخبار السيئة كالخبر العاجل والصاعق. فيومذاك هرعت سيارتا إسعاف الإطفائية إلى مكان سقوط القذيفة وهي من عيار ١٥٥ ملمتراً، وبدأت تنقل القتلى والجرحى إلى المستشفيات القريبة وقد قُدّروا ب١٥٠ بين قتيل وجريح كانوا تجمّعوا منذ الفجر للحصول على الخبز الذي بدأت أزمة الحصول عليه منذ اندلاع الحرب يوم الأحد ١٣ نيسان ١٩٧٥.

لا أبالغ حينما أقول إنّ شارع منزلنا شهد ذلك النهار فاجعة بكل ما للكلمة من معنى. فقد استشهد في باحة الفرن جارنا في الطابق الأرضي أبو جمال (محمد ناصر) والد الإعلامي الزميل صلاح ناصر وقد أحضرت جثته سيارة إسعاف تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني وقد ترك فيَّ مشهد وصوله على حمّالة إلى منزله حالة رعب ظلّت سنوات وسنوات تلاحقني أثناء صعودي الدرج أو نزوله ولم يفارقني مشهد دمائه وأشلائه حتى أنّني كنت أتخايله يلاحقني ليرعبني ويقتلني!
مع أبو جمال رحمه الله استشهدت أم هاني صاحبة محل سمانة في المبنى الملاصق لبنايتنا. كانت هناك تؤمن قوت عيالها وتؤمن بضع ربطات خبز للمحل. حزنّا كثيراً على “أم قناني” كما كنّا نلقّبها من دون أن تعرف ذلك طبعاً. أذكر أن وجهها كان أبيض كالقمر أقرب إلى الحُمرة مع منديلها الأبيض الناصع.

في المبنى نفسه استشهد رجل وزوجته من آل عجمي وقد وفدا من البقاع مع أبنائهما حديثاً إلى بيروت وصار المرحوم يزورنا بهدف تصليح “بيك أب” وهو عبارة عن جهاز يجمع راديو ومشغّل إسطوانات وكاسيت. (شقيقي وليد كان يتوّلى مهمّة التصليح).
ومن شارع عفيف الطيبي الموازي لشارع الإطفائية استشهد الفنان التشكيلي إبراهيم مرزوق وهو كان من بين عداد القتلى وكنّا نتواصل مع أولاده من جيلنا من خلال الشرفات. بعد عشر سنين يشاء الله أن يتزوج شقيقي المهندس وليد بابنة مرزوق الكبرى وهو كان أستاذه في مدرسة الفاروق – المقاصد (سبحان الله).
في ما بعد عرفت أن ابن عم زوجة شقيقي سعيد استشهد وهو من آل قبيطري في صباح ذلك اليوم حيث كان يحتسي القهوة على شرفة منزله. وعرفت أيضاً في ما بعد أن والدة زميلي الإعلامي نبال الشيخة الحاجة أم أنيس أصيبت إصابة بالغة في رجلها ولا تزال تعاني من إصابتها حتى اليوم.

يُخبرني شقيق المرحوم إبراهيم مرزوق الحاج حبيب مرزوق (توفي عام ٢٠١٤) أنهم فتّشوا عن أبو أحمد مرزوق في معظم مستشفيات بيروت والمناطق إلى أن عثروا على جثّته في برّاد مستشفى “دار العجزة الإسلامية” في الطريق الجديدة. الفنان إبراهيم مرزوق ترك لوحات فنية جميلة كانت تقوم أرملته (توفيت في حزيران ٢٠٠٦) بإقامة معارض للوحاته، وهي رحمها الله كانت تحتفظ بفنجان قهوته الذي احتساه قبل استشهاده وسيجارته ذكرى منه. وقد تولّى بعدها المهمّة ولده البكر الحاج أحمد مرزوق (توفي في أيار ٢٠٢١) جرّاء مضاعفات وباء كورونا.

وفي الذكرى السابعة والأربعين لسقوط تلك القذيفة على فرن “الوفاء” من مربض مدفعية قيل إنه موضوع في منطقة الأشرفية، نستذكر ش ه د ا ء تلك المجزرة ولنا في الذكرى عبرة.
وإلى لقاء آخر نقلّب فيه صفحات من دفاتر الحرب اللبنانية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى