لماذا البعض لا يصاب بفيروس كورونا؟ خلايا مناعية “خفية” في أجسادنا قد تكون السبب
تخيل أن يكون جسمك قد شكّل مناعة ضد فيروس كورونا قبل سنوات عدة، أي قبل تواجد الفيروس وقبل انتشار الجائحة أساساً؟ هذا الافتراض ليس ضرباً من ضروب الخيال العلمي، إنما هو احتمال قائم وموجود بالفعل، إذ اكتشف العلماء مؤخراً وجود خلايا مناعية في أجسام البعض تستطيع رصد فيروس كورونا ومهاجمته، والخبر السار هو أن نسبة 40% إلى 60% من الأشخاص الذين لم يتعرضوا للمرض يمتلكون تلك الخلايا.
إليكم كل ما نعرفه عن هذه الخلايا، وفق ما ورد في شبكة BBC البريطانية:
المناعة ضد فيروس كورونا
اعتقد العلماء في بداية انتشار جائحة كورونا أن الأشخاص الذين تعافوا من المرض ستتشكل لديهم أجسام مضادة للفيروس تكسبهم مناعة طويلة الأمد تمنع تعرضهم للمرض ثانية.. لكن مع الأسف تبين أنهم مخطئون.
فقد تبين لاحقاً أن هناك العديد من الأشخاص الذين تعافوا من كوفيد 19 لكن أجسامهم مع ذلك لا تحتوي على أي أجسام مضادة للمرض، وقد استنتج العلماء أن هؤلاء طوّروا أجسام مضادة بالفعل ساعدتهم على القضاء على الفيروس لكنهم فقدوا تلك الأجسام بعد بضعة شهور.. بمعنى آخر فإن تعرضهم للمرض للمرة الأولى وشفاءهم منه لا يعني بالضرورة اكتسابهم مناعة طويلة الأمد ضد الفيروس.
لكن هل هذا يعني أنه من غير الممكن اكتساب مناعة ضد كوفيد 19؟ في الحقيقة ليس بالضرورة، إذ اكتشف العلماء مصدراً آخر غير الأجسام المضادة قد يسهم في تشكيل مناعة طويلة الأمد ضد الفيروس.
مصدر مناعة سري ضد كوفيد 19
بينما انشغل العالم بالأجسام المضادة، بدأ الباحثون في إدراك احتمالية وجود شكلٍ آخر من أشكال المناعة، وهي المناعة التي قد تختبئ داخل الجسد لسنوات بعد التعرض لعدوى ما، على شكل خلايا تدعى “الخلايا التائية”.
والخلايا التائية هي خلايا مناعية، هدفها الرئيسي هو التعرّف على مسببات الأمراض الغازية والخلايا المصابة، ثم قتلها.
وتفعل ذلك باستخدام البروتينات الموجودة على سطحها، والتي يُمكن أن ترتبط بالبروتينات الموجودة على سطح الأجسام الدخيلة.
وكل خلية تائية تختص بدورٍ واحد على وجه التحديد، فهناك تريليونات النسخ المحتملة من البروتينات السطحية التي تستطيع كلٌّ منها تحديد هدفٍ مُختلف.
ونظراً لأنّ الخلايا التائية تظل في الدم لسنوات بعد الإصابة بالعدوى؛ فهي تُسهم أيضاً في تعزيز “الذاكرة طويلة الأمد” لجهاز المناعة، ما يسمح له بتحضير استجابةٍ أسرع وأكثر فاعلية عند مواجهة عدوٍ قديم.
هل يملك المصابون بفيروس كورونا خلايا تائية؟
كشفت مُختلف الدراسات أن الأشخاص المُصابين بكوفيد 19 يمتلكون خلايا تائية تستطيع استهداف الفيروس عادةً، بغض النظر عن ظهور أعراض المرض عليهم أم لا.
وقد اكتشف العلماء مؤخراً أيضاً أن بعض الخاضعين للاختبارات ليست لديهم أجسام مضادة لكوفيد 19، ولكنّهم يمتلكون خلايا تائية تستطيع رصد الفيروس.
والأمر الأكثر غرابة هو أن الباحثين، الذين اختبروا عينات الدم المأخوذة قبل سنوات من بدء الجائحة، عثروا على خلايا تائية مُصمّمة خصيصاً للكشف عن البروتينات الموجودة فوق سطح كوفيد 19.
وهذا يُشير إلى أن بعض الأشخاص كانت لديهم بالفعل درجة مقاومة ضد الفيروس، حتى قبل إصابتهم به.
ويبدو الأمر شائعاً بدرجةٍ مُدهشة: إذ إن نسبة 40% أو 60% من الأشخاص الذين لم يتعرضوا للمرض يمتلكون تلك الخلايا.
ويبدو على نحوٍ متزايد أن الخلايا التائية قد تكون مصدر المناعة السري ضد كوفيد 19، الأمر الذي قد يساعد العلماء بإيجاد لقاحات وعلاج فعّال للمرض.
الخلايا التائية عدوّة الفيروسات اللدودة
بالرغم من أن الخلايا التائية، أو اللمفاويات التائية، لا تحظى بشهرة كبيرة بين الناس، إلا أنها جزء أساسي من الجهاز المناعي.
فإلقاء نظرة على الإيدز في المراحل المتأخرة قد يكشف لنا عن مدى أهميتها بالنسبة للمناعة.
وعلى مرّ الأشهر والسنوات، يُنفّذ فيروس العوز المناعي البشري (إيدز) نوعاً من أنواع الإبادة الجماعية بحق الخلايا التائية، حيث يصطادها ويدخلها ويُجبرها على الانتحار بشكلٍ منهجي.
إذ يقول أدريان هايداي، أستاذ علم المناعة في كلية الملك بلندن وقائد مجموعة في مؤسسة Francis Crick Institute البحثية: “يقضي الفيروس على نسبةٍ كبيرة من الخلايا التائية. وهذا يُؤكد بشدة مدى الأهمية الكبيرة لتلك الخلايا، وأن الأجسام المضادة وحدها لن تكفي لإنقاذك”.
وخلال الاستجابة المناعية العادية -لفيروس مثل الإنفلونزا- يُمثّل جهاز المناعة الفطري خطّ الدفاع الأوّل، الذي يشمل خلايا الدم البيضاء والإشارات الكيميائية التي تدُق جرس الإنذار.
وبهذا تبدأ عملية إنتاج الأجسام المضادة، لتنتشر بعد أسابيع قليلة.
وأردف هايداي: “بالتوازي مع ذلك، يبدأ تنشيط الخلايا التائية بعد أربع أو خمس أيام من إصابتك بالعدوى، وتظهر مؤشرات تحديدها للخلايا المُصابة بالفيروس. وبعدها يجري التخلّص من تلك الخلايا سيئة الحظ بسرعة ووحشية، إما عن طريق الخلايا التائية مباشرةً أو باستخدام أجزاء أخرى من جهاز المناعة مُكلّفة بتأدية المهمة غير السارة نيابةً عنها، قبل أن يحصل الفيروس على فرصة تحويلها إلى مصانع تُنتج المزيد من النسخ الذاتية.
ما الذي نعرفه إذن عن الخلايا التائية وكوفيد-19؟
يقول هايداي: “بالنظر إلى مرضى كوفيد-19 -ويُسعدني أن أقول بالنظر أيضاً إلى الأفراد الذين أُصيبوا دون الحاجة لنقلهم إلى المستشفى- يبدو واضحاً للغاية أن هناك استجابة للخلايا التائية. وهذه أنباءٌ سارة دون شك للمهتمين باللقاحات؛ لأننا قادرون على صناعة الأجسام المضادة والخلايا التائية التي يُمكنها رصد الفيروس”.
ولكن هذا ليس كل شيء. إذ إن الخلايا التائية لم تعمل بشكل جيد لدى العديد من المرضى الذين نُقلوا إلى المستشفى بحالة إصابة شديدة بكوفيد-19.
إذ أوضح هايداي: “تتأثّر أعدادٌ ضخمة من الخلايا التائية. وتقول إحدى النظريات إن الخلايا التائية يُعاد توجيهها ببساطة للأماكن التي تحتاجها أكثر، مثل الرئتين. لكن يشتبه في أن الكثير منها يموت بدلاً من ذلك”.
وأردف هايداي: “بدأت عمليات تشريح مرضى كوفيد-19 تكشف عن ما نصفه بالنخر، وهو نوعٌ من العفن”. ويتجلّى ذلك بشكلٍ واضح في مناطق الطحال والعقد اللمفاوية، حيث تعيش الخلايا التائية عادةً.
ومن المثير للقلق أن نخر الطحال هو السمة المميزة لأمراض الخلايا التائية، وفي هذه الحالة تتعرّض الخلايا المناعية نفسها للهجوم.
ويقول هايداي: “إذا نظرنا لتشريح جثث مرضى الإيدز بعد الوفاة، فسوف نشهد نفس المشكلات. لكن العوز المناعي البشري هو فيروس يُصيب الخلايا التائية مباشرة وعلى النقيض، لا تُوجد أدلةٌ حالياً على أن فيروس كوفيد-19 يستطيع فعل ذلك.
وأوضح هايداي: “هناك العديد من التفسيرات المُحتملة لذلك، ولكن لا أحد يمتلك تفسيراً حتى الآن على حد علمي. وليست لدينا أدنى فكرة عن ما يحدث”.
وربما كان تناقص الخلايا التائية مع التقدم في العمر، سبباً في تأثُّر المسنين بكوفيد-19 بدرجةٍ أشد.
واستشهد هايداي بتجربةٍ أُجرِيَت عام 2011، تضمّنت تعريض الفئران لنسخةٍ من الفيروس المُسبّب للسارس.
وكانت الأبحاث السابقة قد أظهرت أن الفيروس، الذي يُعد من الفيروسات التاجية وأحد أقارب كوفيد-19، يُحفّز إنتاج الخلايا التائية التي كانت مسؤولة عن القضاء على العدوى.
وقد بينت الدراسة كذلك أن الخلايا التائية تستجيب بشكل أضعف بكثير لدى الفئران المتقدمة في العمر .
ورغم ذلك، عرّض العلماء الفئران لفيروس الإنفلونزا في التجربة نفسها. وعلى النقيض من الفئران المصابة بكوفيد-19، نجحت تلك الفئران في التمسّك بخلاياها التائية التي تُكافح الإنفلونزا رغم التقدّم في العمر.
ما الذي يعنيه هذا للمناعة طويلة الأمد؟
يقول هايداي: “مع فيروس سارس الأصلي، الذي ظَهَرَ في 2002، وجدت أدلة أكيدة على وجود الخلايا التائية بعد بضع سنين من إصابة المرضى بالعدوى”.
ويضيف: “يتَّسِق هذا مُجدَّداً مع فكرة أن هؤلاء الأفراد حملوا الخلايا التائية الوقائية بعد أن تعافوا بوقتٍ طويل”.
وحقيقة أن فيروسات كورونا يمكنها أن تؤدِّي إلى تواجد خلايا تائية مستدامة في أجساد المرضى هي ما ألهمت العلماء في الآونة الأخيرة بالتحقُّق من عيِّنات الدم القديمة التي سُحِبَت من أناسٍ بين عاميّ 2015 و2018، ليروا ما إذا كانت تحتوي على أيِّ شيءٍ يتعرَّف على فيروس كوفيد-19.
وولَّدَ ذلك اقتراحاتٍ بأن أجهزتهم المناعية تعلَّمَت أن تتعرَّف على الفيروس بعد أن واجهت فيروساتٍ ذات بروتيناتٍ سطحيةٍ مماثلة في الماضي.
ويثير ذلك احتمالاً مثيراً للقلق بأن سبب إصابة بعض الأشخاص بعدوى أشد هو أنهم لم يحصلوا على هذه الكتل من الخلايا التائية التي يمكنها بالفعل التعرُّف على الفيروس.
لسوء الحظ، لم يتحقَّق أحدٌ بعد مِمَّا إذا كان الناس تتولَّد لديهم خلايا تائية ضد فيروسات كورونا التي تؤدي إلى نزلات البرد.
يقول هايداي: “للحصول على تمويلٍ للدراسة، سيتطلَّب هذا جهداً هائلاً”.
هل سيؤدِّي هذا إلى اللقاح؟
إذا كان التعرُّض لفيروسات البرد يؤدِّي حقاً إلى حالاتٍ أخف من كوفيد-19، فإن هذا يبشِّر بإمكانية تطوير اللقاح؛ لأنه دليلٌ على أن الخلايا التائية يمكن أن توفِّر حمايةً كبرى، حتى بعد سنواتٍ من توليدها.
لكن حتى إن لم يحدث هذا، فإن انخراط الخلايا التائية لا يزال نافعاً، وكلما فهمنا أكثر ماذا يجري، بإمكاننا الانتفاع منها بصورةٍ أفضل.
يوضح هايداي أن طريقة تصميم اللقاحات تعتمد بشكلٍ عام على الاستجابة المناعية التي يأمل العلماء في استخلاصها.
قد يؤدِّي بعضها إلى تحفيز إنتاج أجسام مضادة، وهي بروتينات عائمة حرة يمكنها الارتباط بمسبِّبات الأمراض التي تغزو الجسم؛ إما أن تحيِّدها أو تميِّزها من أجل أن يعمل عليها جزءٌ آخر من الجهاز المناعي. وقد يهدف البعض الآخر إلى إشراك الخلايا التائية، أو ربما يثير استجابة أجزاءٍ أخرى من الجهاز المناعي.
يقول هايداي: “هناك بالفعل مجموعةٌ هائلة من تصميمات اللقاحات”. ويضيف: “إذا تمكَّنا من إيقاف كلِّ ما يفعله المرض بالخلايا التائية لدى المرضى، ستكون لدينا ميزةٌ للتعامل معه، ومن ثم سنقدر على اتِّخاذ خطواتٍ واسعة في السيطرة على المرض”.
يبدو من المُرجَّح أننا سنسمع الكثير عن الخلايا التائية في المستقبل.
عربي بوست