اليوم الأخير في لبنان
صدى وادي التيم – لبنانيات
أنه من أصعب القرارات التي إتخذتها في حياتي الشخصية والمهنية. ليس سهلًا أن تقرّر ترك البلد الذي ولدت وترعرعت فيه. أحببته كثيرًا وكرهته كثيرًا. عفوًا لا احد يمكنه أن يكره وطنه. إنهم أهل السلطة الذين أجبرونا على كرهه. أجبرونا على هجره. أجبرونا على أن نغيّر من عاداتنا. أجبرونا على أن نحمل على ظهورنا ذكرياتنا، الحلوة والمرّة، إلى المجهول.
ليس سهلًا أن تترك الأماكن التي تخاويت معها وفيها كل الذكريات.
ليس سهلًا أن تترك من أحببت ومن أحبوك.
ليس سهلًا أن تدير ظهرك وتمشي بكل بساطة وتترك خلفك رائحة الوطن، وإن لم تكن صحيّة.
ليس سهلًا أن تقصد بلدًا لا تعرف عاداته، وأنت فيه غريب.
ليس سهلًا أن تبدأ من حيث إنتهيت.
ليس سهلًا أبدًا أن ثمة أشخاصًا إعتدّت أن تراهم يوميًا، يشاركونك أفراحك، وتشاركهم أحزانهم، لن تراهم مجدّدا.
ليس سهلًا أن تعتاد على بلاد يُحترم فيه الإنسان.
ليس سهلًا أن تعتاد على عدم إنقطاع التيار الكهربائي 22 ساعة على 24.
ليس سهلًا أن تقود سيارتك بأمان من دون ضجة الزمامير، والدوبلة يمينًا ويسارًا.
ليس سهلًا أن تقف في الصف.
ليس سهلًا أن تعتاد على النظام وإحترام خصوصية الغير.
ليس سهلًا أن تعيش حياة غير فوضوية.
ليس سهلًا ألا يطرق جارك بابك من دون موعد مسبق.
ليس سهلًا ألا تسمع كل يوم ألف مرة : كيفك كيف صحتك. وين مش عم نشوفك.
ليس سهلًا أن تقفل باب بيتك وأنت على يقين من أنك لن ترجع إليه مرة جديدة.
بعيدًا عن الإنفعال وردات الفعل، أقول وأنا أغادر المكان الأحبّ على قلبي، حافظوا على من تبّقى في هذا البلد، إحترموا الذين لا يزالون يناضلون ويرفضون ترك أرضهم وأرض أجدادهم.
وعلى رغم النيات الحسنة فإن ما تقومون به (الجميع) لا يوحي بأن الصامدين سيبقون صامدين إلى الأبد، وهم يرون بالعين المجرّدة كيف تتم عملية إقتلاع أبناء الوطن من جذورهم.
كفى اللبنانيين تهجيرًا. كفاهم تعتيرًا وذلًا ومهانة. يكفيهم ما يعانون منه في كل لحظة من حياتهم.
إنكم بعدم تحمّلكم المسؤولية تهجرّون هذا اللبناني ألف مرّة في اليوم الواحد، حتى ولو لم يهجَر فعليًا. فهو يعيش في وطنه في غربة.
لا يكفي إلقاء المسؤولية على الآخرين حتى تستقيم الأمور. يبقى الكثير لتفعلوه، وأنتم غير فاعلين. الشطارة ليست بكثرة الكلام. بل بكثرة الأعمال.
ليس أسهل من القول أن الآخرين لا يتركونا نعمل. إنها الطريقة الأسلم لكي تتهربوا من تحمّل المسؤولية، وقد إكتشفتم أنكم غير أهل لها، وهي تتخطى قدراتكم، إذ ليس بالنيات تُبنى الأوطان، وبالطبع ليس بالتمنيات.
إفعلوا ما يجب عليكم فعله لتمنعوا اللبناني من التطلع إلى الخارج لكي يبني له ولأولاده مستقبلًا خارج وطن الأرز.
يكفي أن تمرّوا بالقرب من أمام السفارة الكندية في جل الديب لتروا الصفوف الطويلة من الشباب، الذي جعلتمونه يكفر ببلد يُقتل فيه طموحهم.
هذا الجيل الواعد جعلتم منه جيلا يائسًا وكافرًا، إذ لا يكفي أن تقولوا له أن الوطن في حاجة إليه.
فولوكلور التبولة والكبة النية و”الكمّ أرزة العاجقين الكون” لا تعني له الكثير. هو يريد بلدا لا يجوع فيه إنسان ولا تهان كرامته. يريد بلدًا لا يموت فيه المريض الفقير أمام أبواب المستشفيات. يريد بلدًا متوافرة فيه فرص العمل من دون الإضطرار إلى دقّ باب هذا الزعيم أو ذاك المسؤول للحصول على وظيفة.
أوقفوا تهجير اللبنانيين أيها المسؤولون.
أوقفوا وعودكم ببلد مزدهر.
أوقفوا غشّ الناس.
أوقفوا سمسراتكم.
أوقفوا خزعبلاتكم.
أوقفوا عجلة الإنهيار.
إنه اليوم الأخير في لبنان. إنه يوم يموت فيه الأمل.