بعد أول تموز: من سيبقى في لبنان؟

 

صدى وادي التيم – لبنانيات

 

المصدر المدن

خسر لبنان بين عامي 1975 – 1976، النخبة الأكثر تقدماً وعلماً وثراء في الشرق الأوسط. نخبة متنوعة الأعراق والأديان، هاجرت وتوزعت بين أميركا الشمالية وأوروبا وأستراليا.

موجة أخرى من المتعلمين والمقتدرين الذين يشكلون صفوة اجتماعية، مضاف إليهم الشريحة الأعرق من الطبقة الوسطى الريفية والمدينية، هاجرت نهائياً البلد ما بين 1982 و1984.

ثم خسر لبنان عقب حربي “التحرير” و”الإلغاء” (1988- 1990)، عشرات آلاف العائلات المسيحية التي يئست وهاجرت، على نحو “قصم ظهر” هذا المجتمع بما يوازي نكبة المجاعة أثناء الحرب العالمية الأولى، وربما أفدح، طالما أنه لم يستطع أبداً تعويضها.

كان ذلك حصيلة 15 عاماً من الحريق الذي قضى على “الجمهورية الأولى”.

وإذ قام مشروع “إعادة الإعمار”، ابتداء من العام 1992، على استقطاب المغتربين وبث الأمل بـ”عودة لبنان”، وترميم الطبقة الوسطى، وتخريج دفعات كبيرة من الشبان المتعلمين المبتعثين إلى الدول المتقدمة (نحو 40 ألف طالب بغضون ست سنوات تقريباً) تكفّل بأغلبيتها رفيق الحريري، وضخ مليارات الدولارات في شرايين الاقتصاد وإطلاق عجلة ازدهاره القياسي السرعة.. إلا أن مشروع “الجمهورية الثانية” ظل مقيّداً بثلاثة معوقات بنيوية موروثة من رواسب الحرب ونتائجها: استثناء سلاح ا ل ح ز ب  من حلّ الميليشيات، الاحتلال الإسرائيلي، والاحتلال الأسدي. وإذا كانت العداوة تجاه إسرائيل أو تجاه النظام السوري موضع إشكاليات لبنانية، إلا أن سلاح ا ل ح ز ب  كان إشكالياً من غير “عداوة”.

ما بين 2000 و2005، تخلصت الجمهورية بثمن باهظ من الاحتلالين.. وبقي السلاح، الذي وظيفته الدائمة استدعاء العدو، أو الحرب نفسها. وفي الحالة اللبنانية، وابتداء من خريف 2006، أضيفت إليه أو تقدمت أكثر وظيفته الأهم وفائدته الفعالة في الداخل، أي مواجهة الطوائف الأخرى. هكذا، بين انفجار شباط 2005 وآخر اغتيال قُتل فيه محمد شطح عام 2013، نازعت “الجمهورية الثانية” ولفظت أنفاسها. وفي الأثناء، ومنذ تموز 2006، بدأت أفواج جديدة من “نخبة” اللبنانيين بالهجرة تباعاً. كما رسى تقليد طوال 15 عاماً الماضية، عند معظم العائلات، تأهيل أبنائهم جامعياً و”طردهم” إلى بلاد الهجرة والاغتراب فور تخرّجهم، بوصف ذلك قدراً طبيعياً ومحتماً.

أدى فشل حراكيّ 2011 و2015، إلى سيطرة مناخات الإحباط في وسط الجيل الجديد، فيما راحت الدولة ونظامها بالتفسخ والتعفن، فساداً وعصبيات وانحطاطاً سياسياً مشهوداً ومشيناً. وكانت مخاوف ارتدادات “الربيع العربي” والمذبحة السورية، قد كبتت مشاعر الغضب والاستياء، إلى حين بداية الانهيار السياسي والمالي والاقتصادي الذي ظهرت معالمه منذ منتصف صيف 2019، فكان رد فعل تشرين 2019، كأمل أخير مفعم بالوعود.. والبراءة في آن معاً.

بين عوامل الإخفاق الذاتي وجائحة “كورونا” والتهديد العلني بالحرب الأهلية وافتعالها، ذوت تلك الشعلة الخريفية دون “جمهورية ثالثة” مأمولة. والنتيجة المباشرة هي انكسار ثلاثة أجيال متتالية، ووقوعها بين فكي الإفلاس المادي واليأس المعنوي.

كل هذا، يقودنا إلى لحظة عودة المطار إلى نشاطه الطبيعي بعد أول تموز. عندها سنترقب الأفواج الجديدة مما تبقى من مقتدرين ونخبة مثقفة ومتعلمين وأصحاب مهارات وعائلات “محترمة”، وهي تغادر البلاد إلى غير رجعة.

هناك عشرات الألوف من اللبنانيين من حملة الجنسيات الأجنبية، سيكونون طليعة المغادرين. أصحاب الثروات ورجال الأعمال، بل وحتى الفاسدين الناهبين وقد أنقذوا أرصدتهم، سيغادرون نفاذاً بجلدهم. الطلاب والشبان الذين فقدوا الأمل والخريجون الجدد سيحاولون شتى الطرق للخروج إلى حياة أفضل. كل من يرفض الهوان والتفاهة والفقر والفوضى سيقف أمام أبواب السفارات قريباً.

إن بلداً بائساً إلى هذا الحد، لن يبقى فيه سوى هواة السلاح.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!