بيار عطالله وراشيا الفخار: سيرة مسيحِيّي الأطراف

 

في كتابه “راشيا الفخار: سيرة مسيحيي الأطراف”، الصادر حديثاً، يجمع بيار عطالله، يوثّق ويروي ويكتب فصولاً بانوراميّة من التاريخ المحلي، القلق والحائر، لبلدته الحدودية في أقصى جنوب لبنان الشرقي. وهو ينقل توقها إلى ألا تبقى على هامش التاريخ، تاريخ لبنان، وروايته التاريخية الرسمية وغير الرسمية.

العجز عن التأريخ

فتاريخ لبنان الرسمي استمد روايته “التاريخية”، السياسية والاجتماعية والثقافية، واستلهمها من تاريخ جبل لبنان، وتحديدًا من الإمارة المعنية والشهابية وعهد المتصرفية بصورة أساسية. وليكون لتلك الرواية ماضٍ وتاريخٌ عريقان ضاربان في القدم، عادت الرواية اللبنانية الرسمية المحدثة إلى الحضارة الفينيقية ومدنها الساحلية، وحولتها أسطورة يستمد منها لبنان الحديث قوته وحضوره.

وسكتَ، تاريخ لبنان الرسمي عن حيرة وقلق جماعات تقع مواطنها ومناطقها خارج إمارة الجبل والمتصرفية ومدن الساحل. والمدن هذه، أي صور وصيدا وبيروت، لم تُستدخل في ذلك التاريخ اللبناني، إلا بصفتها جداريات فينيقية صنميّة وأسطورية لتزيين متحف تاريخ لبنان الحديث وتمجيده.

وربما يكون السكوت عن التواريخ الاجتماعية المحلية للمناطق، وإهمال حيرة أهلها وقلق جماعاتها ومساراتها وتحولاتها، ناجماً عن عجزنا المتمادي عن التأريخ.

والحقّ أن لبنان والرواية التاريخية اللبنانية الرسمية، ليسا فريدين في هذين السكوت والاهمال. فالروايات التاريخية العربية كلها يشوبها هذا العجز، الذي يلابس أيضاً نشوء الدول المشرقية كلها.

وهو عجز نحصد اليوم ثماره المريرة المدمرة، أقله في لبنان وسوريا والعراق.

الأرض والنسب

أما مطلب بيار عطالله في روايته سيرة بلدته راشيا الفخار، فهو إخراجها من الغفلة والنسيان، ومن تركها قلقة مستوحشة على هامش التاريخ اللبناني. ولتحقيق غايته هذه سجّل ما تيسّر له من روايات أهل البلدة المعمّرين وذكرياتهم الشفوية، ثم دوّنها وأعاد ترتيبها وتركيبها وربطها بحوادث تاريخ البلدة المحلي، وتاريخ المنطقة التي تقع فيها. وهو جمع لذلك كتبًا وأخبارًا ومدوّنات كثيرة غير متداولة في مصادر التاريخ اللبنانيّ الرسميّ والعام.

ومن تلك المصادر السِّير العائلية وسير الأنساب البلدية وانقسامها فروعًا وأنسابًا جديدة، بفعل الهجرات وتغيير مواطن الإقامة. وهذا إضافة الى السّجلات والمدوّنات الكنسيّة، وسواها من المؤسّسات والمعالم العمرانيّة القديمة والحديثة العهد في البلدة، من مهنيّة وحرفيّة وأسواق تقليدية دورية، وفي طليعتها حرفة صناعة الفخار التي طبعت راشيا بطابعها وصارت لصيقة باسمها منذ الأزمنة القديمة، وتميّزها في أقصى جنوب لبنان الشرقي عن راشيا الأخرى: راشيا الوادي، في جنوب البقاع. والبلدتان يجمع بينهما وقوعهما على طرفي جبل الشيخ أو حرمون، الذي يربض ويعلو على مثلّث الحدود بين لبنان وسوريا وفلسطين.

ولعلّ ما يميّز كتاب عطالله هذا أنّ كاتبه مهجوس بالناس، أهل قريته أو بلدته، تاريخهم المحلّي، أسباب معاشهم ورزقهم، إقامتهم وهجراتهم ومواليدهم في ديارهم ومهاجرهم، وروابطهم ببلدتهم. وهذا ما خصّص له مدوّنة كاملة في صفحات الكتاب، متتبّعًا الزيجات والمصاهرات والولادات والمهاجرين بأنسابهم العائلية. كأنه في هذا حريص على نسبة الأهالي الى ديارهم وبلدتهم، مهما باعدت بينهم وبينها الظروف وأسباب المعاش والأقدار والهجرات. كأنما راشيا الفخار هي الأصل والمنبت في حياتهم وحلّهم وترحالهم، وهي المقرّ والمستقرّ والعنوان الأول والأخير. حتى أنّ كلّ شخص ولد في راشيا الفخار أو ولد في ديار الله الواسعة وله نسب ما فيها، يجد إسمه واردًا في مدوّنات بيار عطالله الذي يحصي كلًّا منهم إحصاءً عينيًّا وإسميًّا، ويعيده إلى أهله ونسبه فيها.

وقد يكون حرص الكاتب هذا من دوافع تأليفه كتابه ونشره كمدوّنة إحصائيّة لأهالي راشيا الفخار وأبنائها. لكنّه مهجوس بالقدر نفسه بالتأريخ الحدثيّ لبلدته. ومنه ما هو ضارب في القدم، كحكايات الأجداد الأوّلين الأسطوريّة والدينيّة وبقايا آثارهم في الطبيعة.

التاريخ المضطرب

وقد تكون حوادث تاريخ البلدة الأحدث زمناً، هي الأهم والأكثر إثارة في التعرّف على ما أصاب مجتمع راشيا الفخار البلدي منذ نهايات الزمن العثماني والحرب العالميّة الأولى:

هجرات شطر من أهلها إلى ديار الاغتراب. نشوء الأحزاب والحزبيات الحديثة ونزاعاتها الدامية أحياناً فيه. توسع التعليم والبعثات الدينيّة والتبشيريّة والتعليميّة الأوروبيّة والروسيّة وأثرها في اجتماعها المحلّي عشايا الحرب العالمية الأولى وغداتها. والصراع بين الدول العظمى والبعثات التبشيريّة والتعليميّة على استقطاب أهالي المجتمع البلدي. وما جرّه إنشاء دولة إسرائيل من اضطراب وقطيعة بين قرى جنوب لبنان الشرقي وبلداته الحدودية والديار والمدن الفلسطينيّة، وآثار تلك القطيعة على تلك القرى والبلدات.

وقد تكون الفصول الأهمّ في كتاب بيار عطالله، تلك التي تُروي روايةً محليّة وبلديّة على ألسنة المعمّرين في راشيا الفخار، ومن ذاكرتهم وذكرياتهم. وهي تروي ما حصل وجرى في البلدة وجوارها من حوادث دامية ما بين سنة 1840 وقيام دولة إسرائيل سنة 1948 .

والحوادث هذه متّصلة إتصالاً وثيقًا وعضويًّا بما يسمّى الانتفاضات الفلاحيّة ذات البعد الأهلي والطائفي في جبل لبنان وولاية دمشق أو سوريا على وجه العموم. وهي متّصلة أيضًا بما يسمّى الثورات العربيّة والسوريّة إبان الحرب العالميّة الأولى، والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان لاحقًا.

والثورات هذه كانت شديدة الوقع والأثر في مثلّث الحدود السوريّة اللبنانيّة الفلسطينيّة، وصولًا إلى شرق الاردن. إذ كان مهدها جبل الدروز وحوران والجولان في سوريا، وأمتدت بقوة إلى وادي التيم اللبناني وصولًا إلى مرجعيون، أي محيط جبل الشيخ السكّاني والجغرافي.

الماضي الآتي

لكن بيار عطالله يتابع بتوسعٍ رواية أحوال راشيا الفخار ومنطقتها بين مرجعيون وحاصبيا في عهد استقلال لبنان، وصولًا إلى حوادث 1958 الدامية، وإرتباطها الوثيق بالصراعات والنزاعات والانتخابات النيابية اللبنانية واستقطاباتها الأهلية والطائفية، وتأجيج الزعماء السياسيين اللبنانيين هذه النزاعات المحلية المتداخلة مع الانقسامات والصراعات الإقليميّة والدوليّة على لبنان وفيه، بوصفه ساحة مشرّعة لتلك الانقسامات وأحلافها.

ولعلّ الجديد اللافت في كتاب عطالله هو تتبّعه مجريات الحوادث في بلدته، ورصده رصدًا تفصيليًا دقيقًا تداخل الولاءات والاستقطابات الأهليّة والطائفيّة داخل مجتمع البلدة المسيحيّ، وتأرجحها وانقلابها إلى ولاءات واستقطابات حزبية عقائدية محدثة، ومتصلة بمنازعات الزعماء اللبنانيين في الانتخابات النيابية، وعلى التصدر والمكانة على الصعيد اللبناني العام.

وهذا ما نشهده اليوم عاريًا وبأشدّ صوره تفكيكًا للمجتمع ومؤسسات الدولة، وحشدًا عصبويًا للجماعات الأهلية والطائفية وراء زعمائها وأقطابها في كل منطقة من مناطق لبنان.

والحق أن اللّوحة الجداريّة البانوراميّة التي يرسمها بيار عطالله للحوادث التي ألمّت براشيا الفخار منذ قيام دولة لبنان الكبير وحتى حوادث 1958 ليست إلا مرآة مصغرة وكاشفة لما حدث في لبنان كله وفي كل منطقة من مناطقه.


فتح لاند

وعلى الرغم من تشابه ما حدث في راشيا الفخار ومنطقتها في تلك الحقبة بما حدث في سائر المناطق اللبنانية وارتباطها به، فإن تلك البلدة وسواها من قرى العرقوب وبلداته في الجنوب الشرقي من دولة لبنان الكبير الناشئة سنة 1920، ظلتّ شبه منسيّة على مثلّث الحدود اللبنانيّة والسوريّة والفلسطينيّة، ثمّ الإسرائيلية (1948)، حتى صارت تسمى “فتح لاند”، أي “أرض فتح”، أو قاعدة عسكرية متقدمة لمنظمات “الفدائيين” المسلّحة غداة هزيمة حزيران 1967 العربية المدوية.

وكان على لبنان، بل على قرى العرقوب وبلداته أولًا، أن “تثأر” لتلك الهزيمة بتحويل اللاجئين الفلسطينيين في سائر البلاد العربية “فدائيّين” يتمترسون في تلك القرى والبلدات وأهلها، ليقوموا بعمليات “فدائيّة” ضد الدولة العبريّة وجبروتها العسكري الكاسح.

وكان على لبنان كلّه أن يتحمل أوزار هذا “الثأر”، تكفيرًا عن ذنبه لأنه تلافى المشاركة في حرب حزيران وهزيمتها. كأنّما ليس من العدل أن يُهزم “الإخوة” العرب الكبار ويظل شقيقهم الصغير لبنان – المثلوم العروبة والأخوة العربية – في منأى عن هذه الهزيمة.

والمعادلة هذه ليست سوى نسجٍ على منوالٍ بدويٍ عشائريٍ عريقٍ في الغزو والعصبية والثارات القبلية. ولم يشفع للبنان قط أنه أصغر إخوته في القبيلة أو العشيرة. فكانت “فتح لاند” كفارته المدمّرة له وللّاجئين الفلسطينيّين الذين عجز لبنان عن تدبر مأساتهم، متمترسًا بتوازناته الطائفية، وبخوف كلّ طائفة فيه من الأخرى، حتى انفجر ذلك الخوف مع مأساة الفلسطينيين واستثمار الدول العربية في ذينك الخوف والمأساة، حروبًا أهلية ملبننة طوال 15 سنة (1975 – 1990).

ومرّت في تلك الحروب مياه وروافد يصعب إحصاؤها وحصرها.

اليأس والجذور

ويحصي بيار عطالله في كتابه تبعات هذا كلّه من بلدته راشيا الفخار وعليها: تحوّلها مع كرومها وبساتين زيتونها وأجمات صنوبرها النادر في العرقوب وجبل الشيخ، موقعًا متقدّمًا في ملحمة الثأر الفلسطيني والعربي شبه الكاريكاتورية عملًا وقولًا، والمدمّرة فعلًا لبيوت أهلها وأسباب معاشهم القليلة والشحيحة أصلًا، وتهجيرهم منها، وعودتهم إليها، ثم تهجيرهم مرّات من جديد، وصولًا إلى إقدام إسرائيل على احتلالها واحتلال الجنوب كله وصولًا إلى العاصمة اللبنانية صيف 1982.

واذا كان الاحتلال الإسرائيلي قد أجلى جيشه بالتقسيط من لبنان وجنوبه، فقد أبقى راشيا الفخار والعرقوب ضمن ما سمّي الشريط الحدودي اللبناني المحتل حتى العام 2000. لكن جلاء الاحتلال وجيشه وسجونه في الخيام، لم يضع خاتمة سعيدة لراشيا الفخار المنهكة وشبه الفارغة من معظم أهلها المشتّتين مهاجرين في ديار كثيرة.

لكن بيار عطالله لم ييأس، فوضع هذا الكتاب سجلًا تاريخيًا محليًا ضدّ النسيان والغفلة، ومساهمة منه في إنهاض مجتمع راشيا الفخار المحلي وشدّ همم أبنائها للبقاء فيها والعودة إليها، والعمل في أرضها.. ضد اليأس وإمعاناً منه في إحياء رميم الجذور.

محمد أبي سمرا – المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!