هكذا ولدت “مدينة الحرام لاس فيغاس

محمد السعدي

في العام 1905، باع إقطاعي أميركي 45 هكتاراً من أراضيه الجرداء في موضع ناءٍ موحش من صحراء نيڨادا. وبعد عقود، في العام 1946، عرفت تلك “الحتة المقطوعة” القاحلة ولادة جديدة، فغدت قبلة اللاهثين وراء الحلم المستحيل كأضخم “مَقمرة” في الأرض: لاس فيغاس، التي أسـسها مجرم، ولا يزال “اللص الميكانيكي” أهم رموزها.

سريعاً، تنابز الأميركيون لقب مدينة الحرام sin city في الحديث عن لاس فيغاس، ما يعني “الوديان” أو “المروج” بالإسبانية. إذ تضافرت 3 أسباب لإضفاء سِمة غير عفيفة على المدينة القابعة في الصحراء. أولاً: في العام 1931، أجازت ولاية نيڨادا ألعاب القمار على أراضيها. وثانياً: اعتمدت سلطاتها القضائية تشريعات لتسهيل إجراءات الزواج والطلاق، ما حدا بكثيرين إلى ارتياد الولاية للاقتران بشكل صوري ثم التطليق بسهولة، على نحو يحاكي “زواج المتعة”.

أما السبب الثالث، فمردّه… السكك الحديدية. أجل، فالقطار أتى بحرام إضافي. إذ ازدهرت مشاريع السكك في المنطقة بشكل كبير منذ أوائل القرن الـ20، ما استقطب آلاف العمال العزاب، وفي أعقابهم “مقطورات” سماسرة الهوى و”مقصورات” بائعاته.

تعددت الأسباب والتسمية واحدة: تحليل الميسر وشيوع الزيجات المؤقتة وتفشي الدعارة. أدى ذلك كله إلى لصق سمعة واطئة بالحاضرة، التي ولدت لتكون مرتعاً للمتعة المشبوهة والممارسات الممنوعة، لكن المرغوبة. بالتالي، وفيرة الربح من منظور معشر أقطاب الجريمة المنظمة، البارعين في التحايل على القانون.

ففي العام 1946، كان “المافيوزي” الشرس الشهير بنيامين سيجيل، الملقب Bugsy، يجمع على الأقل “خلتين” من تلك الخلال غير الحميدة. إذ كان قائد قوادي لوس أنجلوس وأحد أقوى منظمي ألعاب القمار السرية في الولايات المتحدة. أتى بفكرة القرن “الجهنمية”: بناء كازينوهات عملاقة في لاس فيغاس لاستدراج أثرياء الجارة كاليفورنيا، حيث الميسر العلني ممنوع. فانطلقت المسيرة الفعلية لأكبر “مقمرة” للترفيه و”مقبرة” للثروة. وبفضل ملايين الدولارات الخضراء المنفقة، بدأت “المروج” تخضوضر فعلاً، لكي تصبح اسماً على مسمى.

وتدلُّ التسمية على أن المنطقة لم تكن قاحلة تماماً، بل فيها شيء من الكلأ والماء. ما يفسر استقرار نفر من الهنود الحمر فيها منذ قرون عديدة. لكنهم أزيحوا من ديارهم في العام 1829 من جانب مستوطنين إسبان في البداية، ثم مستعمرين ناطقين بالإنكليزية. وفي العام 1844، اكتشف المدعو جون شارلز فريمونت وجود مياه جوفية في المنطقة، ما جرَّ إلى توافد جموع المهاجرين، وارتقى بالناحية المُتربة المغمورة إلى مصاف محطة مهمة على الطريق إلى كاليفورنيا.

وكان قوم من مِلة المورمون أول من سعى إلى الاستحواذ على المكان، بعدما أمرهم زعيمهم، برغهام يونغ، ببناء قلعة هناك لكي تشكل محطة آمنة بين ولاية يوتا (معقل المذهب الباطني ليومنا هذا)، وبين المجاميع المنتسبة إليها في كاليفورنيا. لكن، لم يوفق “المرامنة” في مسعاهم، فأجبروا على ترك قلعتهم في العام 1857، وإنْ تشكل مخلفاتهم اليوم أقدم مباني المدينة.

وفي نهاية القرن الـ19، اقتنت الثرية هيلين ستيوارت “الرانتش” البالغة مساحته 750 هكتاراً. ثم باعته إلى سياسي طموح، إنما عديم الذمة وجشع: السيناتور ويليام كلارك، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية مونتانا وصاحب شركة للسكك الحديد. ولإنعاش أنشطة شركته، رسم خطة لبناء قرية صغيرة في الموقع سميت باسمه: كلاركس لاس فيغاس. فعرض الرجل القوي الجديد في تلك الربوع رقعة من مزرعته الشاسعة في المزاد العلني، فبيعت في 15/5/1905 مساحة 45 هكتاراً، تمثل قلب لاس فيغاس الحديثة.

وعُدّ ذلك التاريخ المخاض الفعلي الأول للاس فيغاس. بيد أن ولادتها الثانية تمثلت في المشروع “الاستثماري” في صالات القمار، الذي أنجزه بنيامين سيجيل في العام 1946، مثلما أسلفنا. وشارك معه عدد من أصدقائه أقطاب المافيا اليهودية. لكن، لأهمية الظرف، “تهادنت” الأخيرة مع غريمتها، المافيا الإيطالية الصقلية، لإنجاح المشروع برساميل مشتركة. هكذا، رأت النور صالة “فلامنغو”، أول كازينو عملاق في العالم. وتبعتها صالات متعددة أخرى، بحيث أصبحت آلات “سلوت ماشين” رمزاً ملازماً للمدينة، عاصمة القمار العالمية، التي تعجُّ بمئات الآلاف من تلك الآلات في صالاتها.

في فرنسا، تسمى آلة البخت تلك “اللص أبو ذراع”، في تشبيه لطيف وواقعي لماكينة الحظ المزودة بذراع مرفوعة لا يُعرف إنْ كانت تؤدي التحية أم… تهدِّد، أم كلاهما: “مرحباً بك، هات فلوسك”. يسحبها المقامر لتدوير عدة دواليب في الوسط إلى أن تتوقف. ويربح إذا تنضدت رموز معينة وفق نسق معين. في أغلب الأحوال، لا تتنضد الرموز بالشكل المرجو وتبتلع الماكينة النقود، ما يبرر تشبيها باللص. بل هو لص خطير لأن المسروق يعطيه ماله طوعاً، وهو الممنون.

وإذ يحلو للباريسيين تلقيب عاصمتهم “مدينة النور”، يصرُّ الڨيغاسيون على أن مدينتهم أجدر باللقب، غير مدركين بأن “النور” المقصود يتعلق بالفكر، وليس المصابيح، ولا يقاس بشدة الإضاءة. لكنهم يتباهون بانتشار 24 ألف كيلومتر من النيون في مركز لاس فيغاس وحده. ما يجعله المكان الأكثر إنارة، لا تنويراً، في العالم. فكل شيء مصمم للإثارة واستقطاب الزائر إلى “واحة الأضواء”، المدينة التي نبتت في قلب الصحراء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!