الهروب… إلى الذهب
“اشتدّي أزمة تنفرجي”، حكمة شعبية أثبتت صوابيتها في مختلف الأماكن والظروف، إلى أن وصلت إلى أسوار المصارف اللبنانية، فتقهقرت أمام خزناتهم التي أفرغت، عن حسن نية أو سوء إدارة، من العملة الصعبة، ومثيلاتها من العملات الأجنبية كاليورو والاسترليني. تعاظم الأزمة النقدية، المترافقة مع إجراءات استنسابية للمصارف، بعيدة عن رقابة سلطة الوصاية أو إي جهة رسمية، دفع المواطنين إلى تجريب كل الأساليب لتحرير ودائعهم بالعملة الأجنبية من “سجن” البنوك.
تنقسم محاولات المواطنين لتأمين أمنهم النقدي الذاتي إلى جزأين: الجزء الأول، يتمثّل بأصحاب المدخرات البسيطة، أو من أجبر نفسه على اقتطاع مبالغ مالية من دخله. هؤلاء عمدوا إلى تحويل سحوباتهم بالليرة اللبنانية إلى دولار أو إلى شراء ليرات ذهبية بسعر السوق. فخسارة 30 في المئة من قيمة العملة نتيجة التحويل على سعر صرف السوق اليوم قد تكون أضمن برأي المواطنين من خسارة قد تصل الى 60 و70 في المئة في المستقبل القريب. أما الجزء الثاني فيتمثّل بأصحاب الودائع الكبيرة من العملات الأجنبية في المصارف، والذين يحاولون إخراج أكبر قسم منها عبر شراء سلعة استراتيجية تشكّل الضمانة الوحيدة في الأزمات، وهي الذهب.
“نستقبل يومياً 200 إتصال هاتفي من زبائن ومواطنين، يريدون شراء كميات كبيرة من الذهب بواسطة شيكات مصرفية. ولكننا حصرنا عمليات البيع والشراء في المعاملات النقدية فقط”، يقول صاحب مؤسسة “سوسيتيه بوغوس” الرائدة في قطاع تجارة الذهب عبود بوغوص. ويضيف “لو باستطاعتنا قبول الشيكات المصرفية لكان رقم مبيعاتنا تجاوز الطن من الذهب في اليوم”.
الدفع بالشيكات المصرفية يحرّر وديعة الشاري، ولكنه يضع مكانها أموال البائع في “السجن”. وهذا ما يرفضه كل التجار.
شراء الذهب طبيعي
نقيب معلمي صناعة الذهب والمجوهرات بوغوص كورديان يقول ان “إقبال المودعين والمواطنين على شراء الذهب هو طبيعي. ففي الأزمات يتحوّل المعدن الأصفر إلى الملاذ الأكثر أماناً”.
تحديد سقف للسحب الأسبوعي من المصارف المترافق مع إرتفاع في الأسعار وانخفاض في قيمة العملة، يفوت على المودعين فرصة شراء الذهب، إلا ان “معظم محلات الصاغة والمجوهرات تسجل زيادة ملحوظة في بيع الذهب الخالص” بحسب كورديان .
في الوقت الذي يرزح فيه المواطنون تحت نير انخفاض قيمة العملة وارتفاع الاسعار وغياب الثقة مما قد تحمله الأيام القادمة من مفاجآت، فإن شراء الذهب لا يكون للرفاهية ابداً، انما تحوّطاً من انهيار قيمة العملة وفقدان الدولار من الأسواق. حيث يبلغ سعر الأونصة التي تزن 32 غراماً 1510 دولارات أميركية، وبالتالي فإن الغرام الصافي يقدر بحوالى 48.32 دولاراً.
بحسب الرسم البياني المرفق، يظهر ان واردات لبنان من الذهب بدأت ترتفع بنسب كبيرة وبمعدلات خارجة عن المألوف منذ شباط الفائت. ولمن يذكر فإن في هذا الوقت من السنة كانت بدأت تعلو صرخة التجار وأصحاب محطات المحروقات نتيجة رفض المصارف قبول الليرة اللبنانية لفتح اعتمادات بالدولار، وإجبارهم من قبل المصارف على شراء الدولار من السوق بسعر تراوح بين 1530 و1570 ليرة للدولار وقتذاك.
3 أطنان شهرياً
واردات الذهب وصلت في أشهر تموز وآب وأيلول، أي في الأشهر الثلاثة التي سبقت أزمة السيولة، إلى حوالى 3 أطنان شهرياً من الذهب الخالص، بالمقارنة مع واردات لم تتعد 300 كيلوغرام في الفترة نفسها من العام 2018.
الفورة في الواردات بدأت تنحسر في شهر تشرين الأول حيث بدأت تتراجع الكتلة النقدية بين يدي المواطنين، وزاد تمسكهم بالذهب الذي في حوزتهم. فانخفض العرض مع بداية تفاقم أزمة السيولة، مقابل استمرار ارتفاع الطلب.
محاولات تسييل الودائع المصرفية في شراء السلع الاستراتيجية سواء كانت ذهباً أم عقارات لا تهدأ ولا تستكين. وبحسب أحد المراقبين للأسواق المالية، فإن “شراء العقارات مقابل شيكات مصرفية قد يكون أسهل من شراء الذهب. ذلك انه من الممكن ان يكون لتجار الأبنية مصلحة في قبض الشيكات المصرفية، التي يجيرونها بدورهم إلى المتعاملين معهم من مقاولين وأصحاب مهن وموردي مواد وغيرهم. إلا ان تجار الذهب لا يملكون أي مصلحة في بيع الذهب مقابل شيكات، لانهم سيعجزون عن استيراد الذهب من جديد”.
وكالات