موظّفون في المصارف يزودون الصيارفة بالدولار لتقاسم الارباح
كمّيات الدولارات التي يمتلكها قطاع الصيرفة في لبنان هائلة وتطرح أسئلة عن مصادر هذه الدولارات وكيفية تسعير الدولار خصوصًا أن المصارف تفرض قيوداً على حركة الدولارات خصوصا الكاش؟ هذه الأسئلة مشروعة في ظل البلبلة التي خلقها الصيارفة منذ فرض العقوبات الأميركية على جمّال تراست بنك.
مصادر دولارات الصيارفة
في النصف الثاني من شهر آب الماضي، عاش لبنان على وتيرة تخفيض تصنيفه الإئتماني من قبل وكالتي فيتش وستآندارد آند بورز للتصنيف الإئتماني. وأخذت التقارير المالية بالحديث عن إمكانية إفلاس الدولة اللبنانية مما دفع بالمواطنين إلى بدء سحب أموال من المصارف خصوصا بالدولار الأميركي وتخزينها في المنازل. وازدادت وتيرة سحب الأموال في شهر أيلول مع فرض عقوبات أميركية على مصرف جمّال تراست بنك.
على إثر هذه العقوبات، قامت المصارف اللبنانية (البعض يقول أنها بإيحاء أميركي) إلى لجم عرض الدولار خصوصا للاستيراد بحجّة أن قسم من الاستيراد خصوصا من المحروقات والقمح يتمّ تهريبه إلى سوريا (حجم الإستيراد من المحروقات في الأشهر الست الأولى من العام 2019 أعلى من كل إستيراد المحروقات في العام 2018).
هذه العملية دفعت بالعديد من المُستوردين إلى اللجوء إلى قطاع الصيرفة لتلبية إحتياجاتهم من الدولار الأميركي بهدف الإستيراد. وهنا أخذت أسعار الدولار لدى الصيارفة بالإرتفاع إلى مستويات خلقت حالة من الهلع لدى المواطنين الذين أخذوا بالتهافت أكثر للإستحصال على العمّلة الصعبة والبعض أخذ بالمتجارة بها!
عمليا شركات الصيرفة خاضعة للترخيص من قبل مصرف لبنان وتنقسم إلى فئات بحسب حجم رأسمالها (مثلاً الفئة «أ» 750 مليون ليرة). ولكن بسبب التعامل بالكاش، ممنوع على الصيارفة فتح حسابات في المصارف اللبنانية، لكنهم خاضعون لرقابة لجنة الرقابة على المصارف. في لبنان يبلغ عدد الصيارفة المرخصين 336 شركة صيرفة، لكن هناك المئات من الصيارفة الذين لا يمتلكون أي رخصة ويعملون بشكل غير قانوني. لكن ما يجب معرفته أن سوق الصيرفة يُسيّطر عليها 4 صيارفة كبار والباقي هو تابعون لهؤلاء الأربعة!
شركات الصيرفة تستعمل رأسمالها لشراء العملة الصعبة وتبيعها مع هامش ربح مُعيّن، لكن هذا الأمر يفرض توازناً في سوق العرض والطلب. لكن الأزمة التي نشأت في لبنان في شهر أيلول، أظهرت طلبا على الدولار الأميركي أعلى بكثير من الطلب على الليرة اللبنانية مما يعني عمليا أن طريقة عمل الصيارفة الاعتيادية أي الإستحصال على الدولار من قبل أفراد أو مؤسسات تبيع الدولار مقابل الليرة، لم تعد قائمة! أي بمعنى أخر هناك من كان يزوّد الصيارفة بالدولار وبكمّيات هائلة قد تصل إلى عشرات ملايين الدولارات في اليوم الواحد!
من أين تأتي هذه الدولارات؟ التحليل المنطقي يطرح عدّة فرضيات:
1- من القطاع المصرفي حيث هناك متواطؤن (موظّفون في القطاع المصرفي) يعمدون إلى تزويد الصيارفة بالدولارات لبيعها على أسعار عالية وبالتالي تقاسم الأرباح.
2- معاشات بعض الأشخاص الذين يعملون لدى مؤسسات تدفع بالدولار الأميركي مثل الإعلام أو حزب الله، العاملون في السفارات…
3- السياح الأجانب عند مجيئهم إلى لبنان.
4- التهريب من خارج الحدود.
في الواقع الفرضية الأخيرة ساقطة حكما! أما الفرضية الثانية فتبقى محدودة نظرا لعدد الأشخاص الذين يستفيدون من إيرادات بالدولار الأميركي. هذا الأمر يعني أن الأساس من تمويل الصيارفة من الدولار الأميركي يأتي من المصارف اللبنانية ومن التهريب عبر الحدود.
وإذا كان التمويل من المصارف ليس بمخالفة للقانون إلا أن الإستنسابية في تعاطي المصارف اللبنانية مع الصيارفة تُشكّل مخالفة واضحة للقانون الذي يفرض على كل من يُقدّم خدمات للعامّة أن لا يستخدم الإستنسابية في تعاطيه.
كيف يُسعّر دولار الصيرفة؟
سؤال جوهري خصوصا أن تحديد سعر السوق يفرض أن يكون هناك مكان مركزي (حاسوب مركزي) يقوم باحتساب الطلب والعرض ويستخرج منه سعر السوق. إلا أن هذا الأمر هو غير مُمكن خصوصا مع الأعداد الهائلة للصيارفة وعدم وجود أي رابط إلكتروني فيما بينهم. إذا كيف يتمّ التسعير؟ بعض المعلومات التي حصلت عليها الديار تنصّ على الصيارفة الأربعة الكبار الذين يُسيطرون على السوق، يقومون فيما بينهم بالإتفاق على السعر ويعمدون إلى بيعه إلى الزبائن على هذا السعر. وبما أن الصيارفة الأخرين هو تابعون بحكم أنهم يتموّلون بشكل أساسي من هؤلاء الأربعة، يقومون ببيع الدولار على سعر أعلى من السعر الذي تمّ البيع عليه.إذا سعر دولار الصيرفة هو سعر مُحدّد من قبل مجموعة صغيرة ولا يعكس ما يُسمّى بسعر السوق!
على هذا الصعيد قامت لجنة الرقابة على المصارف البارحة بإصدار مذكّرة تتطلب فيه من الصيارفة المرخصّين (بالطبع) بإرسال جداول للجنة عن كل العمليات التي يقومون بها مع أسماء العملاء والموردين وأصحاب الحق الإقتصادي… وتُحذر اللجنة الصيارفة الذين لا يلتزمون بإجراءات قانونية وفقا لأحكام القانون 374/2001.
بالطبع هذه الجداول ستسمح بدون أدنى شكّ بمعرفة مصادر تمويل الصيارفة بالدولارات، إلا الحماية التي يتمتّع بها الصيارفة ستكون العائق الأساسي أمام لجنة الرقابة من الحصول على المعلومات المطلوبة.
فالمعلومات التي حصلت عليها الديار تُشير إلى أن لجنة الرقابة على المصارف حوّلت ملفات لسبع صيارفة إلى القضاء. وأحد هؤلاء الصيارفة المتواجد في منطقة الحمرا تمّ إثبات مخالفته للقوانين المرعية الإجراء وبالتالي تحويله إلى القضاء، لكنه لم يتمّ أخذ أي إجراء بحقّه وبقي يعمل بشكل طبيعي. وتقول المصادر إلى أن مُعظم هؤلاء الصيارفة يتمتّعون بحماية من أصحاب نفوذ مما يمنّع عنهم أية مُحاسبة وبالتالي لا سلطة فعلية للجنة الرقابة على المصارف عليهم!
وبالتالي هناك تلاعب واضح في سعر دولار الصيارفة مما يخلق البلبلة في الأسواق من دون أن يكون للجنة الرقابة على المصارف أي قدّرة على ضبط سعر صرف الدولار!
مطّلوب تحرّك القضاء
الاقتصاد اللبناني هو إقتصاد حرّ بحسب الدستور! مما يعني أن هناك حرّية التعاقد بين طرفي عملية الشراء والبيع. إلا أن هذه الحرّية تُصبح مُشكلة حين تمسّ بالأمن النقدي للدوّلة اللبنانية التي تغيب أجهزة الرقابة فيها عن القيام بدوّرها وعلى رأسها وزارة الإقتصاد والتجارة (خصوصا للصرافين غير المرخصين) عملا بالمرسوم الإشتراعي 73/83 وقانون حماية المُستهلك، ولكن أيضا وزارة المال التي يُعطيها القانون الحقّ بطلب كل المعلومات عن المكلّفين بضريبة الباب الأوّل. لماذا لا تقوم وزارة المال – مديرية ضريبة الدخل بطلب المعلومات من الصيارفة؟
أيضًا هناك تقصير من قبل وزير العدل الذي يتوجّب عليه الطلب من القضاء عملا بصلاحياته المُعطاة له من القانون، بفتح تحقيق بكيفية تحديد سعر الدولار الأميركي في سوق الصيارفة. لماذا لا يقوم وزير العدل بهذا الأمر؟ هل هناك من مانع قانوني؟ إذا كان الأمر كذلك فليُعلن هذا الأمر في مؤتمر صحفي.
بالطبع الهدف من هذا المقال ليس التصويب على قطاع الصيرفة، لكن الأمر تخطّى التجارة العادية ليُصبح أمن دولة بأكملها بين أيدي عدد محدود من الشركات تُهدّد مصير الليرة اللبنانية وما ينــتج عن ذلك من تداعيات على الكيان اللبناني.
“الديار”