«البحصة» التي كان في داخلها حبة «رمل»
«لا تستعملي مزيل العرق يا سارة. لا تكثري من تناول اللحوم. جيد أنّك لم تبلغي بعد، فتأخر العادة الشهرية لما بعد سن الثالثة عشرة مؤشر جيد أنّك لم ترثي هرمونات أمك، وأن احتمال إصابتك بسرطان الثدي ضعيف. عليك بالكثير من الرياضة. لا تفكّري يوماً في تدخين السجائر ما حييتِ. عليك بالزواج والإنجاب قبل عمر الثلاثين. اهتمي بإرضاع أطفالك، وإياك والعصبية والهمّ والغمّ، الوضع النفسي السيئ سم قاتل يا صغيرتي».
أطلق هذه الوصايا على ابنة شقيقتي كلما اجتمعنا وتحدثنا عن أمها التي توفيت من دون أن يسعفها الفحص الذاتي من النجاة من سرطان الثدي.
كانت حاملاً في شهرها السابع، عندما شعرت هلا بورم صغير في صدرها، لم تُعِر الأمر أهمية، وأرجعته إلى تكوّن الحليب تهيّؤاً للرضاعة. لكن الألم بدأ يزداد بعد أن أنجبت طفلتها سارة. ذهبت عندها لزيارة طبيب العائلة، وبسبب كثرة أسئلته، «بقت البحصة التي كانت في داخلها حبة رمل» وسألته إن كانت مصابة بالسرطان. لم تكن تجهل المرض، عاشت تجربة مع قريبتها قبل سنوات.
طلب الطبيب منها إجراء خزعة وفحوص لدى طبيب آخر أخصائي. أجرت الفحوص وصورة الأشعة، وجاءت النتائج إيجابية «ورم سرطاني». إنه السرطان، المرض الذي تهتز بسببه البيوت الهانئة ويخطف الأحبة على عجل، طرق بابها..
عملية صغيرة لإزالة الورم تحت الإبط، هكذا يطمئن الطبيب مرضاه. وفي غرفة العمليات يقتلع الطبيب الباقي: الثدي، رمز الأنوثة والأمومة، يستأصل قبل أن تبدأ رحلة العلاج.
بعد انتهاء العملية دخل الطبيب ليخبرها أن العملية نجحت بنسبة 95%، والباقي 5% وهو العلاج.
قررت أن تتابع العلاج. لديها أولاد «بيسوا الدني» والله أكيد معها، هناك ناس من جراء حوادث بترت أعضاؤهم.
كان العلاج الكيميائي أولى الخطوات، مع ما يرافقه من دخول للمستشفى والتقيؤ المستمر مع الألم، والعينين اللتين فقدتا بريقهما. كيف أستطيع أن أُخبرك ما الذي يفعله العلاج الكيميائي في كل نقطة تتساقط باتجاه الأوردة، وماذا تفعل، قد يكون الشفاء..
بعد العلاج، تابعت جلسات الأشعة. ثلاثون جلسة دون تأفف، رغم قطع المسافة الكبيرة من الجنوب إلى بيروت لمدة شهرين يومياً ودون انقطاع. كانت هلا شاكرة وممتنة لفرصتها الجديدة في الحياة، فيما ترى وتعرف أشخاصاً مثلها قضوا لأنّهم لم يتمكنوا من تأمين ثمن العلاج.
الهاجس الذي سيطر على تفكيرها هو كيفية حمايتها ابنتها من الإصابة بسرطان الثدي، كون الوراثة في الأورام الخبيثة نسبتها مرتفعة.
مرت خمس سنوات، ولم تتأثر لفقدانها ثديها، أعطتها الحياة فرصة ثانية للبقاء إلى جانب أولادها، وهذا كافٍ لتعويضها عن كل الخسارات، لكن خوفها ممّا سيكتب على تقرير ورقة الفحوص الطبية وصور الأشعة الدورية كل ستة أشهر أتعبها.
توفيت هلا منذ شهرين، هربت خلايا سرطانية إلى رأسها، وانتقل المرض بشراسة للثدي الأيمن وخاضت معركة شاقة ومضنية. بعد استئصال الثديين والغدد اللمفاوية تحت الإبط، أصبح من الصعب تمرير العلاج الكيمائي بإبرة مصل في أي وريد في اليدين، وبما أن الرحلة طويلة وشاقة، أجرت عملية زرع شريان صناعي جديد ليتدفق بواسطته العلاج الكيميائي إلى الأوردة، فتبدلت الأحوال، وبات الوجع أكبر، وفي كل مرة كان الطبيب يطمئنها ويقول نحن في الجولة الأخيرة.
لم تستطع هلا في أيامها الأخيرة أن تداري هذا المشهد عن أبنائها، تجلس ممدّدة في غرفتها، مسلوبة القوى، وآلة الأوكسجين تنفخ في فمها ربع حياة.
في النهاية ارتاح جسدها الذي أتعبه العلاج الكيمائي لسنوات، لكنها تركت رسالة لنا: «الكشف المبكر بداية حياة، مثلما تذهبين إلى الكوافير كل شهر تفقّدي ثدييك بعد الدورة الشهرية. مش ضروري تتذكّري عيد زواجكن، تذكّري لمرة واحدة بالسنة تعملي صورة لصدرك، خيفانة على أولادك من البرد، خافي ع حالك كرمالن».