شباب عربي ثائر.. لأي مشروع ؟ سامي كليب
سامي كليب
ليس السؤال لماذا يثور الشباب العربي اليوم، وانما لماذا تأخرت ثورته حتى الآن؟ كل شيء في هذا الوطن العربي الكبير يثير الغضب والنقمة ويحث على التمرّد والثورة: الفقر، البطالة، الأمية، الفساد، انعدام الأفق، وأبواب مخلّعة تدخل منها كل رياح الفتن في مجتمعات مفكّكة أخضعها القمع المتلطّي خلف أوهام ايديولوجية، ونهشها التهييج الطائفي والمذهبي، فقُتلت فيها كل المشاريع التنويرية وماتت الأحزاب فوق شعارات جوفاء. لكن هل كل ما يحدث بريء؟
في هذا الوطن العربي الذي ينتج ثلث الثروة النفطية العالمية تضرب البطالة 20 مليون شخص. وحدها نسبة بطالة الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سجَلت المعدّلات الأعلى في العالم على مدى أكثر من 25 عاماً، فبلغت 30% في العام 2017. أما الأميّة، فحدّث ولا حرج: 100 مليون عربي أميّون. وأما الفقر، فينهش نحو 70 الى 80 في المئة من الناس في بعض الدول العربية.
حين تكون البطالة مستشريةً والبطون خاويةً والعقول مستعدّة للغسل، والقلوب ملأي بالغضب، كيف لا يرتمي كثير من الشباب العربي في آتون الإرهاب؟ كيف لا تغسل عقولهم، فتصبح أجسادهم وقوداً لنار الفتن والاقتتال؟ كيف لا يثورون ضد الفساد والنهب والفقر؟
يقارب عدد العاطلين عن العمل في فلسطين نسبة 30%، يضطر نحو 100 فلسطيني تقريباً للعمل عند الإسرائيليين أو في المستوطنات. تخيّلوا مأساة شاب فلسطيني في عمر الورود يعمل عند جلّاده وسارق أرضه وقاتل أهله.
في حلب السورية، عاصمة الصناعة، دُمّرت المصانع وتقول السلطات السورية إن ألف مصنع سوري سرق إلى تركيا، فتشرّد العمّال في ساحات الاقتتال والفتن وربما الإرهاب، وسط مؤامرات لبيعهم في سوق النخاسة السياسي وعلى مذبح أيديولوجيات ترفع شعارات دينية مريضة ومهووسة.
في اليمن، فاقت البطالة نسبة ٧٠% ، ويعيش نصف اليمنيين على وجبة طعام واحدة في النهار وفق تقارير الأمم المتحدة. وإذا هرب العامل اليمني من الفقر والبطالة، قتلته قذيفة أو صاروخا في الوقت الراهن. إلى جانب اليمن الفقير ينتعش سوق السلاح. بلغت النفقات العسكرية للمنطقة العربية بين العامين 1988 و2014 ما يقارب أكثر من الفي مليار دولار أميركي.
في العراق والجزائر، حيث الثروات النفطية هائلة، نُهبت الثروات من قبل سياسيين فاسدين، فأضيف النهب الى النزعات الانفصالية التي عززها الاحتلال (في العراق) والاستعمار السابق (في الجزائر)، فانفجر غضب الشباب، وصارت العروبة تهمة.
لا تلوموا الشباب الثائر لأجل لقمة عيشه وكرامته. اللوم كل اللوم على أنظمة وحكومات وأحزاب لم تنتج سوى اليأس
كيف لا يثور الشباب في بلاد الرافدين، أعرق الحضارات الانسانية، حين يرون أن وهن حكوماتهم المتعاقبة منذ الاجتياح الاميركي – البريطاني، بلغ حداً صار فيه التركي يهدد بالتوغل في العراق حين يريد، وصار الإيراني والسعودي والأميركي يتنازعون على أرض احفاد سومر وبابل وآشور في صراع المحاور والمصالح.
وفي لبنان، ظنّ السياسيون المُتَناسَخون منذ تركت لهم فرنسا جمهورية الطوائف، أن بلادة الشعب وصلت الى حد القبول بأن يُطمر بالنفايات، ويزيد السرطان عنده ثلاثة أضعاف، ويدفع فواتير الكهرباء والمياه والطب والتعليم والاتصالات أضعاف ما هي عليه في أهم دول العالم، لكن تبين لهم فجأة أن الشباب قادر على قلب الطاولة على الجميع، وهو قلبها فعلا، ورفع شعار: “كلن يعني كلن”. ربما يكون هذا الشعار مُجحفا بحق من قاوم ودافع عن الوطن وقدم الكثير الكثير، وأيضاً بحق قلة سياسية لم تمارس النهب والفساد، لكن الأكيد أن الغضب ما عاد يُميّز بين سياسي وآخر وحزب وآخر، بسبب شعور الشباب بأن الجميع يتواطأ لإبقاء النظام على بلادته وخبثه وطائفيته وفساده وقهره للناس وإجبارهم على الهجرة.
هل نكتفي بهذه الأسباب لتبرير الغضب؟
أتت الموجة الثانية من “الغضب العربي”، فحلّت اولا في الجزائر والسودان ثم في العراق ولبنان، وبدت أكثر سلمية وتنظيما من الموجة الاولى في حالتي الجزائر والسودان. فبعد تدمير سوريا، وتفكيك ليبيا بالإرهاب والاقتتال، والاطاحة بحكم الاخوان المسلمين في مصر، قدّمت الجزائر نموذجا رائعا بثورتها السلمية التي أطاحت برئيس متهالك ومحاط بمجموعة من الفاسدين، وقدم السودان نموذجا رائعا أيضا أطاح بآخر الرؤساء العرب الدائرين في فلك الاخوان، ونضجت التجربة التونسية، فأتت برئيس عروبي رافض لكل تدخل أجنبي، بينما غرق العراق بتجدد العنف المصاحب للانتفاضة، وكاد لبنان يغرق بعنف مماثل في الايام الاولى للحراك، ولا يزال هذان البلدان على شفير خطر الإحتراب الأهلي.
في حالتي الجزائر والسودان، حسم الجيش الجدل بتلقفه نبض الشارع، (كما حصل سابقا في تونس)، فبرز العسكر الى الواجهة، ويمكن القول بأن القيادة العسكرية السودانية الجديدة، تجاهر بميلها الخليجي ورغبتها بتطوير العلاقة مع اميركا. أما في الجزائر، فهناك صراع خفي بين تيارين عروبي وفرنسي له امتدادات عند بعض الأمازيغ، وبرز أيضاً تنافس أميركي فرنسي، بينما تعزز روسيا علاقاتها السياسية والعسكرية مع الجزائر. وثمة ضغوط كبيرة لا تزال تُمارس لطي صفحة التاريخ النضالي المشرف للجزائر الى جانب فلسطين، لكنني شخصيا على يقين بأن لا الشعب ولا الجيش ولا أي قيادة يُمكن أن تُغير موقفها حيال قضية لها في كل قلب جزائري مكانة الصدارة.
من الصعب جدا أن نشهد استقرارا حقيقيا في لبنان والعراق، قبل انقشاع الرؤية بين ايران وأميركا وتحديدا قبل الانتخابات الرئاسية الاميركية المقبلة
أما في العراق ولبنان، حيث غضب الشباب عارم، سيكون من الصعب جدا، فصل ما يجري في هذين البلدين عن الصراع الإقليمي والدولي في المنطقة. فالدولتان هما ساحتان مهمتان في الصراع الايراني ـ الأميركي (الخليجي). ولا شك أن المحور الأميركي الخليجي، يجد الفرصة مناسبة تماما لاستكمال تطويق ايران سياسيا وإقتصاديا بزعزعة البيئة الداخلية لحلفائها، بالتوازي مع الضغوط المستمرة على مناطق الثروة الزراعية والنفطية في سوريا. لذلك، من الصعب جدا أن نشهد استقرارا حقيقيا في لبنان والعراق، قبل انقشاع الرؤية بين ايران وأميركا وتحديدا قبل الانتخابات الرئاسية الاميركية المقبلة.
أي مشروع سيقوم بعد موجة الغضب والانتفاضات والثورات الجديدة؟
صار انتاج مشروع نهضوي عربي مقترن بثوابت عربية حيال القضية المركزية، أي فلسطين، ضربا من الوهم، ذلك أن الوسائل المادية والمعلوماتية (انترنت وتواصل اجتماعي) والإعلامية ومعظم مراكز الدراسات، لا تعير اهتماما لقضايا العرب، أو لعلها تناهضها تماما، وتحاول تمرير صفقة القرن، فتركز على النقمة والغضب، وترمي جزءا كبيرا من المسؤولية على المحور المقاوم للعدو.
بمعنى آخر، دخلت المنطقة العربية في أتون ما تُسمى “حروب الجيل الرابع”، أي حروب التكنولوجيا واختراق المجتمعات عبر وسائل التواصل الاجتماعي والاقتصاد والمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني، بغية التأسيس لمشروع اقتصادي – اجتماعي – سياسي عربي يخلع عنه ثوب الشعارات العروبية والوحدوية القديمة، ويتخلى عن فلسطين، ويركز على التنمية والعمل والحريات والديمقراطية وغيرها.
في المقابل، يبدو المحور الآخر، أي ذاك المتمسك بايمانه بفلسطين والمقاومة المسلحة، عاجزا عن تشكيل منظومة فكرية وإعلامية وسياسية مُقنعة للشباب الثائر، وعاجزا عن تقديم نماذج مجتمعية جاذبة، ذلك أنه محكوم بالبعد الديني، من جهة، والبعد الايديولوجي المأزوم بالنظرة الى العروبة، من جهة ثانية، وأضيف اليهما البعد الاقتصادي الذي يضيق مجاله وسط الحصار والعقوبات.
نحن اذا في الوطن العربي، أمام مشروعين متناقضين وصلا الى ذروة الاحتقان، ويُخشى أن يكون المستقبل مرصودا أكثر للشباب العربي الحالم بمستقبل مهني واقتصادي واجتماعي وتنموي بعيدا عن الشعارات العروبية الكبرى، وان يكون تفكيك الدول العربية، وبلادة الحكومات، وعقم الانظمة والأحزاب التقليدية عن تجديد نفسها، جسرا مفروشا بالورود لصفقة القرن وغيرها.
لا تلوموا الشباب الثائر لأجل لقمة عيشه وكرامته. اللوم كل اللوم على أنظمة وحكومات وأحزاب لم تنتج سوى اليأس.