الحشيشة البعلبكية الساحرة والسياسات الدولية: من سايكس بيكو إلى الرهائن الغربيين!!
حملة لتلف الحشيشة في الخمسينيات من القرن الماضي في الإطار صورة أبو حس جعفر
أكثر من سبب يدعو إلى إعادة فتح موضوع زراعة الحشيشة في منطقة بعلبك الهرمل، ليس لأننا على أبواب تشريعها لغايات طبية فقط، أو لعجز السلطات الأمنية والعسكرية عن مكافحتها واستئصالها نهائيا من المنطقة، وكذلك ليس لغسل أيدي أهالي بعلبك الهرمل من صنع هذه “الآفة”، فهذه الأمور جرى تناولها مرارا، وأُتخمت بالكتابة عنها، غير أن هناك ما يتعداها، ويدخل ضمن المسكوت عنه أو المستتر عمدا أو تكاسلا عن البحث عنه.
لم يأت المؤرخون والرحالة في كتبهم وأحاديثهم عن المنطقة على ذكر زراعة الحشيشية في بعلبك الهرمل، علما أن بعضهم اعتنى بالإطلاع على ما فيها من مزروعات وعدّدها وهي معروفة فأوردها مفصّلا، كالحبوب والأشجار المثمرة والخضر ، ويشكّل كتاب “تاريخ بعلبك” لميخائيل ألوف (نشره في العام 1904) مرجعا مهما لمعرفة أنواع هذه المزروعات، كونه ابن المنطقة وجال في أرجائها، وكان حاله كحال من سبقه، لا وجود لزراعة الحشيشة في بعلبك الهرمل.
أما من تناولوا تأريخ زراعة الحشيشة في المنطقة من خلال تحقيقات صحفية، هناك شبه إجماع فيما بينهم، على أن هذه الزراعة قدمت (أو بدأت) مع الانتداب الفرنسي على لبنان ولم يضيفوا على هذا شيئا، وعليه، نحن أمام معلومة عقيمة وجافة لا فائدة من عصرها، يغلب التجهيل فيها على المعرفة والاعتلام.
هل يعقل أن تنتقل هذه الزراعة بنفسها إلى المنطقة؟ من وراء استقدامها؟ وهل يتم انتقال زراعة ما إلى منطقة جديدة بزرع البذور فقط؟ ألا تحتاج إلى خبرات علمية وفنية؟ وكذلك إلى أدوات لتصنيع منتوجها؟ وما هي اسواقها الموعودة؟ وهل كانت البنية الفوقية أو التحتية لاستثمار هذه الزراعة موجودة في المنطقة؟ وكل هذا ألا يستدعي وجود جهة مؤهلة لتوفير تلك المتطلبات لتشجع الفلاحين على مثل هذه الزراعة؟ أضف إلى هذا، لا زراعات دخيلة إلا بقرار سياسي كبير كونها ترتبط بالأمن الغذائي والاقتصادي، مع أننا نتحدث عن زمن كان الحاكم فيه الانتداب الفرنسي الذي اعتنى جيدا بكل ما يدخل بطون أرضنا من بذور، وكان من قراراته الشهيرة سحب بذرة حب القمح الكاملة من حقولنا والتي درج أجدادنا على زراعتها، وفرض بذورا أخرى على المزارعين.
الإجابة على هذه الاسئلة، ليس القصد منه إنشاء سردية مختلفة لزراعة الحشيشة في منطقة بعلبك الهرمل فقط، إنما إعادة وصل عالم زراعة هذه النبتة بعالم السياسات الدولية والحروب التجارية حينذاك، فلم يكن قرار استقدامها إلى المنطقة معزولا عن ظروف زمن اتخاذه، وهو مع دخول جيوش الحلفاء إلى لبنان بعد هزيمة السلطنة العثمانية، ومع احتدام الصراع بين الانكليز والنخب الوطنية في مصر.
أبو حسن جعفر (من وجهاء المنطقة) تساءل عن سر استبدال تسمية الحشيشة بالقنب الهندي، مع أن الأخير هو الاسم المتداول لهذه النبتة علميا وعالميا، قد يكون هذا الاستبدال بقصد تجهيل مصدر النبتة وشطب ما يؤكد استيرادها من موطنها الأصلي (الهند) الذي يخضع للحكم الاستعماري البريطاني، لكن ما ينقله أبو حسن عن الأقدمين في المنطقة، يؤكد بأن هذه الزراعة جاء بها الانكليز بعد دخول قواتهم إلى بعلبك الهرمل في الحرب العالمية الأولى.
لا يعني هذا برأي أبو حسن غسل أيدي الفرنسيين من إدخال هذه الزراعة إلى المنطقة “فقد كان هناك غض طرف من قبلهم” خصوصا أنهم لا تنقصهم القدرة الأمنية على تدمير هذه الزراعة، ومثل هذه الأمور لا تكون من دون ثمن، وتحتاج إلى اتفاقات سرية بين الدول تتبادل فيما بينها الخدمات، فسايكس بيكو لم ترسم الحدود النهائية والاخيرة بين مصالح هذين البلدين المتشابكة في منطقتنا.
يذكّر أبو حسن، بأن الانكليز استخدموا سلاح المخدرات في صراعاتهم الدولية، وهذه إشارة منه إلى حرب الأفيون، وفيها أجبر البريطانيون الصين على فتح أسواقها أمام شركات المخدرات الانكليزية بقصد تقويض قوة هذا البلد وإخضاعه، وهم احتاجوا لاستخدام الأسلوب ذاته مع المصريين بقصد إنهاكهم اقتصاديا والاستيلاء على زراعة القطن هناك بأسعار رخيصة وإغراق الحكومة المصرية بالديون لفرض سياسات مالية تخدم مصالح لندن في مصر.
يقول أبو حسن، إدخال زراعة الحشيشة إلى بعلبك الهرمل تم بطريقة منظمة ومدروسة وهادفة من قبل الإنكليز، فإلى جانب جلبهم بذور هذه النبتة من الهند، استغلوا عدم وجود فتوى دينية بتحريم هذه الزراعة على الإطلاق في المذهب الشيعي، كما قاموا بتوفير حماية أمنية لها بالاتفاق مع الفرنسيين، وكذلك تعيين أسواق تصريفها في مصر، وايضا توفير الخبرات الفنية لزراعتها وتصنيع أدوات انتاجها، ولتوسيع قاعدة الانتفاع من هذه الزراعة محليا، تولى الانكليز توزيع مهام استغلال هذه الزراعة على مناطق عدة، فكانت حصة البعلبكيين تقديم الأرض وزرعها، في حين تتولى زحلة صناعة الأدوات، على أن يكون التصدير من المناطق الساحلية.
وللعلم، تحتاج زراعة الحشيشة إلى خبرات مختلفة عن زراعات المنطقة الاعتيادية، واستخراج الزهرة (المادة المخدرة) يتم بعملية معقدة، فبعد حصد النبتة من الحقول تودع لمدة معينة بعد قطافها في غرف مغلقة تعزلها عن الرطوبة، وعند يباسها يجري طحنها بمدقات خشبية، ثم توضع في مرحلة أولى على المسرد، ومن بعدها على المقطف حيث تستخلص المادة المخدرة العجيبة، وهي عبارة عن غبار عالق على جدران الغرف المغلقة، يتم جمعها لتوضب في أكياس لحفظها.
يؤكد أبو حسن، نجاح مشروع زراعة الحشيشة وقتذاك، ونظرا لجودة البذور التي استقدمها الانكليز من الهند، بلغت شهرة الحشيشة البعلبكية الآفاق لمفعولها “الساحر” على الأنفس وضآلة ضررها على الأبدان والصحة، وكان معظم انتاج هذه الحشيشة يذهب إلى مصر مستفيدا من إباحة بعض الفرق الصوفية تعاطيها، واستمر لسنوات على هذا المنوال، إلى حين سقوط النظام الخديوي في مصر وانتصار ثورة يوليو في مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، فتغيرت وجهة شحنات الحشيشة من لبنان إلى مصر لتكون من لبنان إلى أوروبا، فشرب الغرب من ذات الكأس التي كان يتجرعه المصريون.
إبان الحرب اللبنانية وما بعدها، تعددت وجهات التصدير وافتتحت للحشيشة البعلبكية سكك تهريب جديدة بغطاء استخباري من أكثر من دولة، ومنها ما كان مكشوفا كما حدث في صفقة إطلاق سراح الرهائن الغربيين من بيروت أواخر الثمانينيات بموافقة ال سي آي إي نفسها، ليكون الموسم الأخير لتفلت هذه الزراعة، حيث جرى فيما بعد تقليصها إلى أضيق الحدود مع جمهورية الطائف الوليدة، عبر برنامجين الأول أمني والثاني تنموي سمي مشروع الزراعات البديلة، وكانت المحصلة فشل المشروعين، ليبقى الحل الموعود هو التشريع لغايات طبية بعد سقوط الأعذار الدولية بمنعها.
لكن يلفت أبو حسن إلى أمر شديد الأهمية، ويقول، هناك من قام بتغيير البذرة التي جلبها الانكليز إلى لبنان، والحشيشة المزروعة حاليا في بعلبك الهرمل تختلف عن السابق، كذلك نوعية الانتاج باتت رديئة جدا وتحدث مضاعفات صحية بخلاف ما كانت عليه في الماضي. ويبقى السؤال، من قام بتغيير البذور ولماذا؟ في ظل تسابق دولي في هذه الفترة على تشريع زراعة هذه النبتة، وهل هناك طلب خارجي بسحب الذور القديمة من بعلبك الهرمل؟ أسئلة يأنف اللبنانيون مناقشتها في العلن…لكن مسؤوليهم يسهبون في تناولها في السرّ.