تفشي السرطان في لبنان: ثقافة العناية التلطيفية بالمرضى

استكمالاً لتقرير سابق يتطرق إلى ضرورة الوعي في التعامل مع مرضى السرطان، بوصفه شأناً عاماً ويمس حياة نسبة كبيرة من اللبنانيين، بعدما تبين منذ حوالى خمسة عشر عاماً تقريبًا، أن لبنان يسجّل، سنة بعد سنة، ارتفاعًا ملحوظًا في عدد المصابين بالسرطان.. ننشر هنا تقريراً في معنى “العناية التلطيفية”:

على الرغم من أن الشفاء من مرض السرطان ممكن، خصوصأ عندما يكون الكشف مبكّرًا، فأنّ رحلة عدد من المرضى نحو الشفاء تنتهي بتغلّب المرض على المريض.

محطّتان أساسيّتان تطبعان هذه الرحلة: الأولى هي التشخيص (Diagnosis) وإعلام المريض وعائلته بالنتيجة، وتلقيه العلاج. أما المحطة الثانية فهي قرار الطبيب التوقف عن معالجة المريض وإعلام المريض وعائلته بذلك. وهكذا يدخل مريض السرطان مرحلة نهاية الحياة.

العناية بالحياة
هنا يبرز دور العناية التلطيفية المرتبط وثيقًا بالكف عن تلقي المريض العلاج بسبب انعدام الأمل بالشفاء. لكن الباحثين في المجالين الطبي والنفسي يتجهون اليوم إلى عدم حصر العناية التلطيفية بمرحلة محددة من حياة المريض. وصنّفت منظمة الصحة العالمية العناية التلطيفية على أنها تتوخى “تحسين نوعية حياة المريض وعائلته في مواجهتهم مرضاً مزمناً غير قابل للشفاء”. لذا تُعنى الرعاية التلطيفية بما تبقّى من الحياة، وليس بنهاية الحياة.

البروفيسور جورج شاهين، في مؤتمر العناية التلطيفية الذي نظمه مستشفى سيدة المعونات الجامعي، شدد على هذه الفكرة: “العناية التلطيفية ليست حكرا على المرضى في أيّامهم الأخيرة، بل يجب أن يتلقاها المرضى ابتداءً من لحظة تلقيهم العلاج”. ويضيف: “علاج مرض السرطان يتطلب فريقًا يتكون من الطبيب المعالج، المعالج النفسي، والممرض، إضافة إلى العلاج بالموسيقى أو بالفن، وأحياناً مرشداً روحياً في حال أراد المريض ذلك”. يدعم البروفيسور شاهين رأيه هذا بنتائج دراسات أثبتت أن متوسط العمر المتوقع أكثر ارتفاعاً لدى المرضى الذين تلقوا العناية التلطيفية منذ البداية، مقارنة بالذين لم يتلقوها أو تلقوها متأخرين.

وحسب الدكتورة رشا حمرا، رئيسة دائرة الإرشاد والتثقيف الصحي في وزارة الصحة، استخدمت منظمة الصحة العالمية مصطلح “العناية التلطيفية” للمرّة الأولى عام 1990. وفي 2014 حثت على رفع فرص الحصول على الرعاية التلطيفية باعتبارها جزءًا أساسيًا من الأنظمة الصحية، مشددة على خدمات الرعاية المجتمعية والمنزلية.

واقع الحال في لبنان
ما هو واقع الحال في لبنان اليوم؟ تحرص الدكتورة حمرا على التشديد على أنّ الرعاية التلطيفية تُعنى بالمريض وعائلته طوال مدة المرض، وليس في مرحلة نهاية الحياة فحسب. وتضيف: “الرعاية التلطيفية ضرورية لمرضى السرطان إنما ليست حكراً عليهم بل تشمل المصابين بفيروس نقص المناعة أو أمراض الشيخوخة أو أي أمراض مزمنة أخرى”.

يتمتع لبنان بمتوسط العمر المتوقع الأعلى في المنطقة وهو 79.93 سنة، منهم 10 في المئة فوق سن الخامسة والستين، و1.5 في المئة فوق سن الخامسة والثمانين. وتبلغ حالات الإصابة بالسرطان 13 ألف حالة جديدة سنوياً، فيما يحتاج 15 ألف مريض سنوياً إلى الرعاية التلطيفية. لكن 5 إلى 10 في المئة منهم فقط يحصلون عليها.

الكتمان ليس علاجاً
تعتبر حمرا أن بعض المحرّمات لا تزال تلف الموت في لبنان، ما يجعل مناقشة الموضوع نادراً داخل العائلة ومع الأخصائيين، وحتى مع المريض نفسه في أيامه الأخيرة. فبهذه الطريقة يظن أفراد العائلة أنهم يحمون المريض من هول الحقيقة ووطأتها. 19 في المئة من المرضى فقط يبلغون بالتشخيص أو بالمصير. وهكذا تُتخذ قرارات مصيرية متعلقة بحياة المريض أو بموته من دون استشارته، أو حتى إبلاغه بالأمر.

هذا ما وصفه الدكتور هادي غانم، ببعض من الفكاهة: “أتبلّغ من مساعدتي أنّ مريضي رجل ستّيني. يدخل إلى مكتبي مع وفد من أربعة نساء. أسأل من المريض، فتجاوبنني امرأة أنه في البيت، وأنهنّ بناته وأخواته وبنات حمّيّه، لأن عائلته لا تريده أن يعلم شيئاً عن التشخيص”. ينتقد غانم انصياع الأطباء لرغبة العائلة، متسائلاً: كيف للمريض أن يواجه المرض في هذه الحال، وأن يتلقى الرعاية الطبية والنفسية اللازمة، ومنها العناية التلطيفية؟ ويذهب غانم أبعد من ذلك: “المسألة أخلاقية قبل أي شيء، وعلى المريض أن يعلم أنه مصاب بالسرطان، وما هو العلاج، وما هي عوارضه الجانبية. فضلا عن أنه حرّ في الموافقة على تلقّي العلاج أو رفضه، بصرف النظر عن موفق العائلة”.

تجربة “جمعية سند”
تعتبر الدكتورة حمرا أن إقناع المريض وعائلته بنقله من المستشفى إلى البيت، ليموت بسلام في سريره محاطا بمحبّيه، في حال إمكان ذلك طبياً، من أصعب ما يواجهه العاملين في قسم العناية التلطيفية.

“جمعية سند”، وهي أول جمعية تُعنى بالعناية التلطيفية في لبنان، تعمل منذ تأسيسها عام 2010، على تذليل هذه المصاعب. وهي توفر رعاية المسنين وذوي الأمراض المستعصية التي لا أمل في الشـفاء منها، وخصوصاً الذين قرروا مع طبيبهم وعائلاتهم تمضية ما تبقى من حياتهم في منازلهم. تسعى الجمعية إلى منح الرعاية لهؤلاء المرضى وعائلاتهم، برفع نوعية ومستوى الحياة وصون كرامة المرضى وعائلاتهم، بتأمينها العناية التلطيفية الشاملة للمرضى من دون مقابل مادي، بما في ذلك الدعم الطبي والاجتماعي والنفسي ضمن البيئة المنزلية. وهي تمتلك فريقاً متخصصاً بالرعاية التلطيفية من أطباء وممرضات وطبيب نفسي، وآخرين يعملون في الصحة العامة والتغذية  والعمل الاجتماعي والروحاني.

تقول الدكتورة سلام جلّول، المديرة الطبية لـ “جمعية سند”، إن الجمعية تُعنى بالمرضى في مراحل متطورة من المرض، أي الذين لم يتبق لهم سوى 6 أشهر أو أقل من الحياة. وفي الـ48 ساعة المتبقية من حياة المريض، يقف الطاقم الطبي المرافق إلى جانب المريض والعائلة ويعلمانهم بالمعلومات المتوافرة عن مآل المريض ومصيره. ويحاول الطاقم قدر المستطاع أن يخلق نقاشاً حول نهاية الحياة، إذ غالبا ما يكون الحديث عن الموت همساً وفي الخفاء خلف الجدران.

حياة تسبق الموت
تشدد الدكتورة جلول على أنّ الرعاية التلطيفية لا تعني انتظار الموت، بل على العكس، تعني أن الإنسان لا يزال حياً. في هذا السياق تضرب أمثلة عن أمنيات المرضى في نهاية حياتهم، وتمكنوا من تحقيقها بفضل مساعدة الجمعية: قبل يومين من وفاتها تمنت أم رؤية ابنتها تتخرج من الجامعة، فقامت بإلباسها ثوب التخرج والقبعة وذهبت معها إلى  الحفل والتقطت لهما صور. أمّا المريض الذي كان يعيش بعيداً من قريته ومسقط رأسه، فتمكن من تمضية نهار كامل في القرية مع عائلته، بلا أوجاع نتيجة تلقيه أدوية مضادة للآلام. وتوفي المريض بعد أسبوع. في حالة أخرى تمكنت مريضة مشرفة على الموت من زيارة كنيسة القديس شربل، وكانت هذه أمنيتها، بعدما كانت حبيسة البيت طوال ثلاث سنوات. في الكنيسة التقطت لها الصور، وأرسلتها لأفراد عائلتها مذيّلة بعبارة: أنا أحب حياتي.

تنهي الدكتورة جلول أمثلتها باقتباس من سيسيلي سوندرز، الطبيبة والباحثة البريطانية في مجال العناية بالمرضى في نهاية حياتهم: “نفعل كل ما يسعنا، ليس من أجل الموت بسلام، بل للعيش طالما حياة تنبض في أجساد البشر”. وفي الختام تشدد الدكتورة جلول على أنّ العناية التلطيفية لا تنتهي بوفاة المريض، بل تُعنى بعائلة الميت التي تكون قد دخلت مرحلة الحداد.

اورنيلا عنتر – المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!