لا كبيرة لاقفال مدرسة مار جرجس القليعة ” تحقيق الين سمعان “
قال أمير الأدب الفرنسي فيكتور هوغو: “من يفتح باب مدرسة يغلق باب سجن”، في دلالة على دور المدرسة في الحد من انتشار الجريمة في المجتمعات. فإذا من الصحيح ايضا القول ان من يغلق باب مدرسة يفتح باب سجن. فكيف بالاحرى إقفال صرح تعليمي عريق ابوابه بعد 60 عاما من العطاء؟ هو امر مخز على الدولة اللبنانية ككل، وعلى المعنيين خصوصا.
إن اقفال ابواب مدرسة مار جرجس – القليعة لراهبات مار يوسف دو ليون، الذين اتوا الى بلدة القليعة منذ 60 عاما ليس إلا مؤشرا خطيرا ووصمة عار في زمن التطور العلمي. فهذه المدرسة العريقة ستكون خارج المعادلة التربوية للعام الدراسي الجديد في ال 2020 في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية والمادية المتعددة الوجوه.
نبذة عن تاريخ رهبنة مار يوسف دو ليون
تأسست رهبنة القديس يوسف، على يد الأب جان بيار ميداي اليسوعي، وبذلك عام 1650 في مدينة Le Puy-en-Velay في فرنسا.
رسالتها متنوعة وفي خدمة الجميع وبخاصة للأكثر فقرا. وفي عام 1958 اسست هذه الرهبنة مدرسة مار جرجس في القليعة وكانت امتداداً لمواقع الرهبنة منذ عام 1923 في لبنان حيث كانت رسالتها الأولى في مستشفى اوتيل ديو في بيروت بخدمة المرضى، ثم انتقلوا الى دير الحرف عام 1936 لرعاية الشباب وتعليمهم، بالإضافة الى حضور اجتماعي ورعائي في منطقة غدير- جونية، وفي عدة مناطق اخرى اقفلت قصرا اثناء الحرب الاهلية.
ومدرسة مار جرجس في القليعة كانت أولى المدارس التي أنشأت في هذه البلدة الحدودية في قضاء مرجعيون، وقد تعلم على مقاعدها طلاب من مختلف بلدات قضاءي حاصبيا ومرجعيون بدأ من شبعا حتى ميس الجبل.
كما يعود الفضل لراهبات مار يوسف دو ليون في تشجيع تعليم وتثقيف فتيات البلدة والبلدات المجاورة في ذلك الوقت، اذ كان العلم محصورا بالذكور والميسورين.
قاومت هذه المدرسة الاحتلال الاسرائيلي للبنان بالعلم فبقيت أبوابها مفتوحة لطلاب العلم والمعرفة. وفي أثناء الحرب بين الجيش اللبناني والفلسطينيين عام 1978 كان طلابها يصلون الى صفوفهم على متن الآليات العسكرية خوفا من القنص الذي كانت تتعرض له البلدة في ذلك الحين.
وقامت الإدارة آنذاك باستحداث صفوف للطلبة في الملعب الشتوي في الطابق السفلي من المبنى وتحصينه بسواتر ترابية حتى يكونوا بمأمن من القصف. وفي خضم المعارك التي كانت تحصل في المنطقة وقطع الطرق ونقص في الامدادات الغذائية والطبية، أنشأت الراهبات مستوصفا طبيا لمعالجة المرضى والمصابين بإدارة الأخت لويز ماري حلو التي لم تتلكأ يوما عن مد يد العون إلى المحتاجين والمرضى من أبناء البلدة والبلدات المجاورة لمدة 40 سنة بشهادة الأهالي.
وخلال الحرب الأهلية، وخصوصا حرب شرق صيدا منتصف الثمانينات، وتهجير القرى المسيحية من منطقة شرق صيدا، فتحت الراهبات ابواب المدرسة لإيواء العائلات المهجرة ومددن لهم يد العون والمساعدة بكل الامكانيات المتاحة لديهن في ذلك الوقت.
وفي العام 2000 بعد تحرير الجنوب ترك الكثير من العائلات بيوتهم فارغة في المنطقة، حيث اصيبت المدرسة بنكستين. الأولى طلابية حين غادر اكثرية تلامذتها والثانية مادية اذ كانت السنة الدراسية في منتصفها تقريبا والاقساط المدرسية لم تكن قد سددت بالكامل بعد.
ولكن المدرسة بإدارة الراهبات، ابت الا ان تكمل رسالتها في هذه البلدة المسيحية الحدودية، والتي يرتادها الطلاب من مختلف البلدات بمختلف انتماءاتهم السياسية والعقائدية والدينية. كما كانت هذه المدرسة الصغيرة صرحا لتعليم اولاد مسيحيي العراق في الآونة الاخيرة، بعد ان هربوا من الإضطهاد الداعشي في العراق، والتجأوا الى بلدة القليعة لتكون محطة آمنة لهم، قبل سفرهم الى كندا واستراليا.
المدرسة اليوم يرتادها 150 تلميذا من مسيحيين ومسلمين، وتتألف هيئتها التعليمية والادارية والموظفين من 20 شخصا، يعيشون من روحانية راهبات القديس يوسف المبنية على روح الوحدة والانفتاح على قبول الآخر والتربية على القيم الانسانية والايمانية والوطنية.
سعادة
تعاقب على إدارة المدرسة راهبات عدة وصولا الى مديرة المدرسة اليوم الاخت ريموندا سعادة التي ترد جذور الأزمة إلى مجموعة عوامل متراكمة مع مرور السنين، منها “الأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلد عموما وفي هذه المنطقة خصوصا لجهة قلة فرص العمل والنزوح الى المدن، مما ادى الى نقص في عدد الطلاب، وازدياد عدد المدارس غير المنظم في بقعة جغرافية واحدة، لا تبعد الواحدة عن الأخرى العشر دقائق فيتوزع الطلاب وينخفض عددهم.
والعامل الثاني، التشريعات غير العادلة كالضرائب وسلسلة الرتب والرواتب والقانون 46”. اما العامل الثالث والاهم يتمحور حول التأخير المستمر بدفع أموال منح المؤسسات التربوية المجانية المستحقة منذ أكثر من أربع سنوات لدى وزارة التربية، بالإضافة الى النقص في عدد الراهبات الناتج عن قلة الدعوات الرهبانية عامة.
كل ذلك أدى إلى إضعاف فرص استمرارية مدرسة شبه مجانية حيث قدرتها المادية على تغطية مصاريفها، وأوقعت المدرسة في عجز مالي، حاولت الرهبنة تغطيته لسنين عدة ولكن للاسف بات الوضع يفوق قدراتها.
الحكيم
المونسنيور منصور الحكيم كاهن رعية مار جرجس القليعة تحدث عن تاريخ المدرسة العريق واعرب عن عمق حزنه وأسفه الذي يشاركه فيه المطران شكرالله نبيل الحاج والرعية وأهالي المنطقة. ويرفع الصلاة الى الله متضرعا ومناشدا أصحاب الهمم والأيادي البيضاء من ابناء الرعية المقدامين والمحبين لبلدتهم، والذين لا يردون خائبا ولا يتلكأون بمد يد العون للمساعدة وان يتكاتفوا ويكونوا الى جانب ادارة المدرسة، راجيا أن تزول هذه الغيمة السوداء عن كاهلها.
الخوري
وأعرب رئيس بلدية القليعة حنا الخوري عن أسفه لما آلت إليه الأمور في المدرسة، “هذا الصرح التربوي العريق الذي خرج اجيالا على مدى سنين طوال، تحت رعاية عدد من الراهبات الفاضلات الذين قدمن الغالي والنفيس في سبيل استمرارية رسالتهن التعليمية في هذه البلدة”.
وأشار الى انه سوف يدعو الى اجتماع موسع بين البلدية والرعية واهالي البلدة للتباحث في ايجاد حلول ممكنة تحول دون اقفال ابواب المدرسة، اذا لم تساهم ثقافة التكافل الاجتماعي بإنقاذ هذه المدرسة، فمصيرها كمصير بعض من المدارس النصف المجانية الأخرى التابعة بمعظمها لارساليات رهبانية والتي اقفلت ابوابها في الكثير من البلدات اللبنانية في الآونة الأخيرة.
والأزمة لا تقتصر طبعا على المدارس النصف المجانية، بل تشمل كل المؤسسات التربوية الخاصة عموما. في حين تؤكد نقابة المعلمين في المدارس الخاصة أن القانون 46 ليس سبب العجز، تصر بعض المؤسسات التربوية على اعتباره كذلك، فضلا عن منح المدارس المجانية المستحقة لها لدى وزارة التربية والمتأخرة منذ العام 2015.
بين هذا وذاك، لا حلول تلوح في الأفق. ويبقى السؤال هل من سيحرك ساكنا لانقاذ القطاع التربوي في لبنان؟ هل من سيحرك ساكنا لانقاذ مدرسة شبه مجانية في بلدة مسيحية حدودية، استقبلت الطلاب من الطوائف كافة دون اي تمييز او تفريق؟. اليس من واجبات الدولة دعم هذه المدارس الشبه المجانية والحفاظ عليها بدل ان تتأخر بدفع المنح اربع سنوات؟. من له أذنان صاغيتان فليسمع.