من يرمي الجيش في الحضن الأميركي ؟
تصرّ السلطة السياسية على دفع الجيش إلى الاعتماد على التسليح الأميركي حصراً. هذه السياسة الاتكالية الواضحة، تضع الجيش مستقبلاً أمام خطر الصدام مع الخيارات الأميركية، التي تراهن دائماً إما على صراع مع المقاومة اللبنانية أو على الأقل على تشكيل توازن بين سلاح المقاومة وسلاح الجيش
غير أن الاهتمام الزائد لوزارة الدفاع الأميركية بدعم الجيش اللبناني، يدفع إلى التساؤل عن أسباب هذا «السخاء»، والنتائج المرجوّة منه في السنوات المقبلة.
أما الأكثر غرابةً، فهو التسليم اللبناني الرسمي والسياسي، بـ«اتكالية» لبنان على المانح الأميركي، وحلفائه بدرجة أقل، كالبريطانيين ثم الألمان، مع ما يعنيه الأمر من انعكاس على واقع الجيش ودوره، في ظلّ موقع لبنان في الصراع مع العدو الإسرائيلي والحرص الأميركي المطلق على مصلحة إسرائيل.
ولكي تكتمل الصورة، شاءت الحكومة من دون اعتراض جدي لأيٍّ من الأفرقاء السياسيين، أو حتى من المؤسسة العسكرية، أن تُخرج النسخة الأخيرة من موازنة عام 2019 من دون بند تسليح الجيش، كجزء من الخطة الخمسية التي أُقرَّت قبل عامين بعد مؤتمر روما. ومع الحجّة القائلة بأن الموازنة لن تخدم إلا لنصف عام، وأن جزءاً من أموال تسليح الجيش دفعت في عام 2019، إلّا أن السلطة تستسهل أصلاً الاتكال على المسلِّح الأميركي، مع قلة اكتراث، شكليّاً على الأقل، بصورة المؤسسة العسكرية كحامٍ مستقل للسيادة والمصالح اللبنانية.
شكّلت معركة نهر البارد محطّة مفصلية في التحوّل الأميركي تجاه العلاقة مع الجيش اللبناني. فتاريخياً، كان الاعتماد اللبناني على فرنسا كمصدر أوّل للتسليح والعلاقة الاستراتيجية، حتى جاء عهد الرئيس أمين الجميّل ومدير الاستخبارات جوني عبدو. وُضع الجيش عندها في «العهدة الأميركية» تسليحاً وتدريباً وتنظيماً، وجرت إعادة هيكلة الأفواج والألوية خارج النطاق الجغرافي الذي كان يعمل به سابقاً. وفي زمن الوجود السوري في لبنان، لم تنقطع العلاقة العسكرية اللبنانية – الأميركية، وبقي مكتب التنسيق العسكري ناشطاً في وزارة الدفاع. ومع الخروج السوري من لبنان، وصدور القرار 1701 بعد عدوان تموز 2006، بدأ الاهتمام الأميركي بالجيش يتزايد، حتى دخل مرحلته الجديدة بعد أشهر على انتهاء معارك البارد. اللافت خلال معركة البارد، أن الأميركيين وقفوا على الحياد، لا بل امتنعوا عن تزويد الجيش بالسلاح، ولم يقدّموا حتى مجموعة من القناصات طلبها الجيش آنذاك، كان يحتاجها ضد عصابات «فتح الإسلام»، قبل أن تعود فرنسا وتقدم عدداً منها، بالإضافة إلى أعداد من الصواريخ والقنابل عبر الإمارات العربية المتحدة. فيما التزمت سوريا مدّ الجيش بآلاف الذخائر والقذائف وقطع غيار الآليات.
ولعلّ الاستنتاج بصعوبة القضاء على المقاومة في حرب تقليدية بعد فشل تجربة حرب تمّوز، أو عبر تشكيل قوى مسلّحة مناوئة كتجربة انقلاب 5 أيار 2008 الفاشل، دفع الأميركيين إلى اعتماد استراتيجية جديدة، بدعم القوى النظامية في الداخل، كالجيش وقوى الأمن الداخلي، بهدف تشكيل توازن مع قوة المقاومة.
لا تكترث السلطة بصورة المؤسسة العسكرية كحامٍ مستقل للسيادة والمصالح اللبنانية
ويؤكّد أكثر من ضابط تولوا سابقاً مناصب قيادية في الجيش أن «الأميركيين يعتبرون دعم الجيش اللبناني وتمتين العلاقة معه جزءاً من استراتيجيتهم في الشرق الأوسط، كما اعتبار لبنان موطئ قدم مهم على ساحل المتوسط». ويضيف أحد قادة الجيش السابقين أنه «في اعتقاد الأميركيين، تقوية بعض مؤسسات الدولة اللبنانية، وعلى رأسها الجيش، من ضمن استراتيجية بعيدة المدى، كفيلة بتفكيك الواقع الذي نشأ بعد اتفاق الطائف، والذي نتج منه تحوّل سلاح المقاومة إلى حالة شرعية متزاوجة مع مؤسسات الدولة العسكرية».
وهذه الاستراتيجية، أي تشكيل قوّة التوازن، لا يخفيها الأميركيون أنفسهم. لا بل أكثر من ذلك، في اعتقادهم، على ما يؤكّد أكثر من مصدر لبناني مقرّب من الأميركيين، أن «حزب الله يشعر بالتهديد مع ازدياد قوّة الجيش، ومستقبلاً سيخسر جزءاً من تأييد اللبنانيين عندما يظهر الجيش بمظهر القوّة، وعندها يصبح سلاح الحزب الذي تعاظم في لحظة ضعف الدولة، من دون مبرّر».
الرهان الأميركي من جهة، وحاجة الجيش اللبناني إلى السلاح من جهة أخرى، لا يغيران الواقع الحالي بالتزام جميع الكتل السياسية الأساسية في البلاد، على الأقل في البيانات الوزارية، التمسّك بسلاح المقاومة وضرورة بقائه جزءاً من أي استراتيجية دفاعية، حالية غائبة أو مستقبلية غير واضحة المعالم. إلّا أن التعاون العسكري الأميركي – اللبناني، والتسليم اللبناني بأحادية التسليح، باتا يرسمان سياسات جديدة في آلية عمل الجيش عبر أشكال إجرائية، تهدف إلى تغيير المناخ الذي ساد بشكل عام منذ اتفاق الطائف، على الرغم من التناقض القائم بين أهداف القيّمين على المؤسسة العسكرية حالياً، وتحديداً العماد جوزف عون ومعهم الرئيس ميشال عون وبين الأهداف الأميركية التي يُقدَّم الدعم إلى المؤسسة العسكرية على أساسها.
فالعنوان العام الذي يقوم عليه هذا الدعم، ينقسم إلى جزءَين: مساعدة الجيش على تطبيق القرار 1701، ومكافحة الإرهاب، من دون أي ذكرٍ للخطر الحقيقي الوحيد الآن (بعد اندحار الإرهاب) على لبنان وهو الأطماع الإسرائيلية. وعلى هذا الأساس، ينخرط الجيش في ورشة السيطرة على الحدود البرية عبر استحداث أفواج الحدود البرية (المنطق اللبناني اقتصادي لمكافحة التهريب وللحد من تهريب البشر، بينما المنطق الأميركي قائم على قطع التواصل مع سوريا)، والعمل على رفع عدد جنوده في منطقة جنوب الليطاني (بحسب القرار 1701، يصل عديد الجيش إلى 15 ألف جندي، ويجري العمل الآن على إنشاء «الفوج النموذجي» للحدود الجنوبية)، وعلى تدريب القوات وإعداد الخطط والمناورات التي تتعامل مع مكافحة الإرهاب كخطرٍ وحيد.
يعتقد الأميركيون أنّ دعم الجيش كفيل بتفكيك الواقع الذي نشأ بعد اتفاق الطائف
ومما لا شكّ فيه، أن التعاون الدائم مع قوات غربية، وتحديداً أميركية، في المناورات العسكرية، يحدّ من قدرة الجيش على القيام بأي مناورة تحاكي عدواناً إسرائيلياً على لبنان، على غرار المناورات الدائمة التي يجريها للتعامل مع الأخطار الإرهابية، كما كانت الحال عليه قبل 2005. فضلاً، عن أن الجيش لم يزوّد بأي سلاح يمكّنه من مواجهة السلاح الإسرائيلي، ولا يبدو أن في السلطة الحاكمة، من يفكّر فعلاً في تأمين مصادر تمويل أو تسليح جديّة تمنح الجيش قوّة على الأقل دفاعية في مواجهة العدو الإسرائيلي. ومع ذلك، تتنطّح بعض القوى في السلطة للمطالبة بسحب سلاح المقاومة، أو بالقول إن الجيش بات قويّاً بما يكفي للاستغناء عن سلاح حزب الله. في المقابل، يفتح حزب الله الباب أمام نقاش الغاية من سلاحه كما أبدى تعاونه في كل جلسات الحوار التي عقدت على مدار سنوات.
ويبدو لافتاً في الآونة الأخيرة، التركيز الغربي الدائم على الاستراتيجية الدفاعية، من خلفية إحراج الرئيس عون وحزب الله سياسيّاً، ووضع سلاح الحزب على طاولة التفاوض اللبنانية. علماً بأن الاستراتيجية القائمة حالياً، وبالبديهة السياسية، أي ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، هي التي أمّنت الانتصار في عدوان تمّوز، وهي كفيلة في أي حرب مقبلة بصدّ العدوان على لبنان. غير أن مصدراً لبنانياً مقرّباً من الأميركيين، يشرح خلفية الإصرار على الاستراتيجية الدفاعية، كواحدة من آليات الضغط على حزب الله لإرغامه على البحث عن تسوية لسلاحه ومقاتليه ودوره في الساحة اللبنانية عموماً، من ضمن صيغة لـ«حلّ نهائي شامل» في المنطقة على وقع «صفقة القرن» والضغوط على إيران وسوريا.
الجيش لبومبيو: لن نواجه حزب الله
تعي قيادة الجيش أن في الإدارة الأميركية اليوم من يعوّل على صدام، ولو محدوداً، بين الجيش اللبناني وحزب الله في المستقبل. إلّا أن مصادر عسكرية رفيعة المستوى، تؤكّد لـ«الأخبار» أن أحداً من العسكريين الأميركيين لم يطرح منذ تولّي العماد جوزف عون قيادة الجيش أي فكرة من هذا النوع. بل على العكس، يؤكّد المصدر أن عون، في زياراته الأربع للولايات المتحدة الأميركية، منذ توليه القيادة، يكرّر على مسامع الأميركيين أن «حزب الله مكوّن لبناني أساسي وأن الاتفاق السياسي في البلاد هو على اعتبار السلاح سلاحاً للدفاع عن لبنان بوجه العدوان الإسرائيلي». ويضيف المصدر أن «عون كان واضحاً في الاجتماع الذي عقد في وزارة الدفاع مع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، بالتأكيد أن الصدام بين الجيش وحزب الله غير وارد، وأن ما من عاقل في لبنان يكرّر تجربة الحرب الأهلية». ويضيف المصدر أن «أجواء وزارة الدفاع الأميركية مغايرة تماماً لتلك التصريحات التي يطلقها المسؤولون الحاليون في الإدارة الأميركية، واللقاءات بين الجيش والعسكريين الأميركيين تنحصر في مهمات مكافحة الإرهاب». وفي السابق، وخاصة بعد معركة عرسال (اجتياح الجماعات الإرهابية للبلدة وخطف العسكريين عام 2014)، كان قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي ومدير الاستخبارات كميل ضاهر، يؤكدان للعسكريين الأميركيين وجود تنسيق بين الجيش وحزب الله في قتال الجماعات الإرهابية، ولم يكن الأميركيون يعترضون. على العكس من ذلك، كانوا يقولون إنهم يتفهّمون الوقائع اللبنانية. ففي هذا المجال تحديداً، لا يخاطب الأميركيون الجيش إلا بـ«نعومة مفرطة». غضبهم العاري يظهر عندما يُطلق جندي لبناني طلقة واحدة باتجاه جيش الاحتلال الإسرائيلي، وتكون هذه الطلقة من ضمن المساعدات الأميركية، تماماً كما حصل يوم اشتباك العديسة في آب 2010. هذا الغضب هو النتيجة «الطبيعية» لـ«احتكار التسليح».
99 مليون دولار (فقط لا غير) سنوياً
تراوح قيمة الدعم الأميركي للجيش سنوياً بين 120 و180 مليون دولار أميركي، على شكل مساعدات عسكرية متنوّعة وبرامج تدريب. وبحسب مصادر معنيّة، وبحسب الأرقام المعلنة من قبل الأميركيين، يبلغ الدعم المقدَّم إلى الجيش بين العامين 2006 و2018 نحو مليار و280 مليون دولار، أي بمعدّل أقل من 99 مليون دولار سنوياً.
هذه المبالغ تحوّلها وزارة الدفاع الأميركية إلى حساب صندوق خاص للجيش اللبناني، الذي يختار حاجاته من الأسلحة، طبعاً ضمن اللوائح المقبولة أميركياً، وتسدّد وزارة الدفاع الأميركية ثمنها لشركات السلاح من الصندوق المخصص للجيش.
وتنقسم آليات الدعم الأميركي على خمسة برامج، معظمها يُموَّل من موازنة وزارة الدفاع الأميركية بعد إقرارها في الكونغرس، بالإضافة إلى برامج التدريب. وعبر هذه البرامج، يحصل الجيش على قدرات مختلفة للقوات البرية والجوية والبحرية، وعلى تعزيز قدرات تتعلّق الدعم بالنيران والمناورة والقتال للقوات البرية ومضاد الدبابات والدعم الجوي القريب والاستطلاع والدعم اللوجستي وأمن ومراقبة الحدود.
وعبر برنامجي دعم للقوات الحليفة، حصل الجيش في عام 2018 على دعم بلغ 180 مليون دولار، ومن المقرّر أن يحصل هذا العام على دعم بقيمة 104 ملايين دولار. وتسلّم الجيش خلال السنوات الماضية ما مقداره 12 طوافة HUEY TWO و13 طائرة CESSNA وعدداً من صواريخ HELLFIRE وصواريخ COPPERHEAD M712 ومنظومات طائرات من دون طيار. ومن المتوقع أن يزوّد الجيش بطوافات قتالية في عام 2021. وفي المعدات البرية، تسلّم الجيش عدداً من المدرعات من الجيل الثالث وصواريخ مضادة للدروع، وللقوات البحرية 26 قارب اعتراض للتدخل السريع، و«قناص طرابلس»، وهو أكبر قطعة بحرية لدى القوات البحرية بطول 42 متراً، وكلفته نحو 40 مليون دولار أميركي.
اللافت في الأمر، أن الدعم الأميركي، على رغم تأمينه جزءاً كبيراً من حاجات الجيش لمهمات مكافحة الإرهاب والسيطرة على الحدود وفرض الأمن في البلاد، يجري بمبالغ تُعد بسيطة بمقاييس الموازنة العامة (99 مليون دولار سنوياً، أي أقل من الزيادة التي طرأت العام الماضي على النفقات التشغيلية لشركتي الهاتف الخلوي، بقرار من وزير الاتصالات)، ويمكن الدولة اللبنانية أن تؤمّنها من واردات داخلية شتى، لتحصين الجيش من الوقوع في فخّ التسليح الأوحد.