“الأنباء” تعيد نشر ما كتبه سركيس نعوم: المسيحيون لم يفهموا كمال جنبلاط!

تعيد “الأنباء” نشر مقالة هامة كتبها الصحافي المخضرم سركيس نعوم في “النهار” وجاء فيه:

لم أتخصص كصحافي بالزعيم الوطني الكبير الشهيد كمال جنبلاط مثل زملاء كثيرين كانوا أكبر مني سنّاً يوم صرت واحداً منهم. بعضهم قضى رحمه الله وبعضهم الآخر لا يزال على قيد الحياة مثل الأستاذ أميل خوري أحد أساتذتي في “النهار” والدكتور عامر مشموشي الذي عرفته محللاً سياسياً في دار الصياد أطال الله عمريهما. انضمامي إلى أسرة النهار كان من أسبابه تقديمي لمدير التحرير فيها فرنسوا عقل عام 1944 “سكوبا” أي سبقاً صحافياً مهماً هو تقرير عن حال الإدارات العامة والفساد المعشِّش فيها، توصلت إليه لجنة متخصصة أدارها وزير كُلِّف تحقيق إصلاح إداري، وذلك في محاولة لإقناعه بجدارتي لأن أكون واحداً من الأسرة. وكان من أسبابه أيضاً حاجة “النهار” الى مندوب يغطي أخبار القصر الجمهوري في بعبدا في تلك الفترة، بعد إبعاد الرئيس في حينه سليمان فرنجية الزميل إميل خوري عن القصر جرَّاء نشره تقريراً سرياً عن مؤتمر قمة عربي عقد حديثاً وحصل عليه بطريقة ما في أثناء انعقاد جلسة نيابية.

أتاح لي العمل الصحافي متابعة أخبار جنبلاط الذي كان يشكِّل وعدد محدود من أقرانه لولب العمل السياسي في لبنان. وأتاح لي أيضاً التعرف إليه وخصوصا بعد اندلاع الحرب الأهلية وغير الأهلية عام 1975. إذ صرت أرابط في منزله أحياناً لمتابعة نشاطاته واجتماعاته ولمحاولة الانفراد بأخبار منه شخصياً. وهنا لا أزعم أنني صرت ملازماً له وموضع ثقته. لكنني أقول وبكل ثقة أنه كان يستلطف هدوئي وتهذيبي وابتعادي عن الاشتراك في التدافع مع الآخرين للحصول على تصريح منه أو خبر! وسمح لي ذلك أكثر من مرة بأن أحظى بلقاء منفرد معه في غرفة قريبة من مطبخ بيته في محلة “فرن الحطب”، حيث كان يرتاح على كرسي طويلة (chaise langue) وكنت أجلس على كرسي بجانبه. كان أحياناً يفكر ويرتاح، وأحيانا يسأل مبدياً رغبته في معرفة مكان ولادتي وعائلتي. طبعاً كنت أسعد بذلك. لكن سعادتي كبرت يوم قال لي: انت شاب “آدمي” يا سركيس. روح دبّر شي خمس أو سبع آلاف ليرة واشتر فيهم أسهما في شركة سبلين التي كان يؤسسها حينذاك أو يفكِّر في تأسيسها. ضحكت وقلت له من أين يا حسرة.

طبعاً لم أتمكن من تعميق معرفتي الشخصية به اولاً بسبب الحرب، وثانياً لأن القدر والغدر لم يمهلانه فقضى شهيداً برصاص لم يعتقد يوماً انه سيُطلق عليه. لكن أقول وبكل صدق ومن متابعتي نشاطه منذ بدايته انه كان مختلفا عن زعامات لبنانية كثيرة، وكان مميزاً وصاحب موقف وصاحب رؤية وصاحب مشروع. فهو ولد في عائلة حكمت جبل لبنان أي لبنان الصغير، أو شاركت في حكمه نحو قرنين من الزمن. ودفع ذلك كثيرين الى وصفه بالاقطاعية. ولم ينتبه هؤلاء الى أنه تلقى دروسه في لبنان ثم أنهاها في الخارج، وإلى أنه أصبح من أكثر السياسيين في البلاد ثقافة، وإلى أنه أسس ومنذ بداياته حزباً أراده عابراً للطوائف والمذاهب وهكذا كان. واراده عابراً للطبقات وبانياً لجسور في ما بينها، واراده إصلاحياً في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع. وأراد بواسطته ومع أحزاب وشخصيات سياسية أخرى بناء دولة مدنية حديثة فيها مواطنون لا رعايا إقطاعيين وطوائف ومذاهب وعشائر، وفيها الكفاءة والالتزام الوطني هما المعيار الاول لشغل أي موقع او منصب. أراده مُؤسِّساً مع آخرين لدولة ينتمي مواطنوها إلى وطنهم أولاً، وتسود فيها المساواة بين الناس والحرية للمعتقدات والاحترام لحقوق الإنسان. أراده شريكاً في دولة تحافظ على التنوع الطائفي والمذهبي لشعبها وتعتبره مصدر غنى واعتزاز، وتفتح في الوقت نفسه باباً على مستقبل ينتقل عبره اللبنانيون من دولة حصص طائفية متنوعة الى دولة أو مزارع مذهبية الى دولة لا طائفية او مدنية. وهو لم يتحرَّج من استعمال كلمة علمانية لوصف دولة لبنان المستقبل كما يفعل الكثيرون اليوم خوفاً من اتهامهم بالإلحاد او بالكفر، بعد تنامي الاصوليات في كل الأديان وفي كل المذاهب.

أحبائي مهما حَكِيت عن كمال جنبلاط لا أفيه حقه، فأنا لست مؤرخاً. لكنني مواطن شعر دائما بالإعجاب بهذا الزعيم الذي أخذ من إقطاعيَّة عائلته الاصالة والتمسك بالأرض، والذي أخذ من الثقافة الغربية والمسيحية والثقافة العربية والإسلامية ومن الثقافات السياسية والدينية الآسيوية ومن التجربة الشيوعية الإشتراكية الروسية، الذي أخذ منها العناصر التي كوّنت شخصيته وفكره ووعيه وطموحه الى التغيير. وبدلاً من أن يدمّر ذلك شخصيته ويوقعها في التناقض كما يحصل مع الضعفاء وأنصاف المثقفين فإنه صقلها، وجعل مواقفها من كل القضايا منسجمة صغيرة كانت أم كبيرة. فالاهتمام بالفقراء وبالعمال وبالحركة النقابية والتمسك بيسارية تقدمية غير شيوعية تشبه الى حد بعيد اشتراكية دول اسكندنافيا الأوروبية، وإصراره على دولة مدنية علمانية حديثة في لبنان، وتمسكه بالغاء الطائفية وفي الوقت نفسه بالمحافظة على “أدوار” الطوائف والمذاهب المكِّونة للبنان والعائشة فيه، واعتباره عن حق أن العروبة الحقة تحمي لبنان أو تساعده في حماية نفسه لا عروبة التسلط والاستبداد، وأن إسرائيل عدو أو شرُّ يجب الانتباه منه، وخوفه من مخططات الدولة الكبرى ومصالحها التي غالباً ما تكون على حساب مصالح الدول والشعوب الصغيرة والفقيرة وأيضاً الغنية والأكبر حجماً، فكل ذلك يؤكد شمولية هذه الشخصية واحاطتها الواسعة بكل شيء وصفاء صاحبها وقدرته اللامحدودة.

لن استرسل في هذا الكلام. أود أن أقول أمراً واحداً فقط هو أنني كنت دائماً من الذين يلومون الزعامات المسيحية وخصوصاً التي وصلت منها الى رئاسة الجمهورية والأحزاب المسيحية لأنها لم تبادر بعد تسليم فرنسا دولة لبنان للمسيحيين وان مع مشاركة مسلمة الى إقامة شراكة وطنية فعلية تضم المسلمين والمسيحيين، وتبني دولة يفتخر مواطنوها بالانتماء إليها وبالتضحية في سبيلها، وتلغي المخاوف المسيحية من الذوبان في المحيط الاسلامي والغبن المسلم جراء الامتيازات والضمانات المسيحية التي لم تضمن مسيحيا ولم تميّز مسيحياً. ولو حصل ذلك لما كانت كل طائفة سعت ولا تزال تسعى الى “تحالف” وهمي مع قوة كبرى اقليمية أو دولية من أجل تعزيز موقعها في الداخل وسلطتها على حساب الطوائف الأخرى. ولما كان سيشهد لبنان أول ثورة “بدائية” لكن بعد الاستقلال عام 1958، ثم اول حرب أهلية بين 1975 و1990، بل أول حرب بين قوى إقليمية ودوليىة جنودها اللبنانيون. إنطلاقا من ذلك لا بد من القول أن الإنصات الى الشهيد كمال جنبلاط منذ بدئه حياته السياسية كان يمكن أن يجنِّب لبنان الانحدار من نظام الحزبين (كتلويين ودستوريين) اللذين يضمّان مناصرين من كل الطوائف والمذاهب والمناطق الى نظام الأحزاب الطائفية، وإن احتفظ بعضها باسماء وطنية أو عربية أو اجتماعية، والى الحرب المسيحية – الإسلامية بين 1975 – 1990، ثم الى الحرب السنّية – الشيعية الباردة بين 1990 و 2005 التي تحولت حامية بعض الشيء بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، ثم بعد بزوغ “الربيع العربي” في سوريا وتحوله لاحقاً على يد نظام الأسد حرباً أهلية طائفية مذهبية إرهابية. وفي هذا المجال لا بد من الإشارة الى أن البرنامج المرحلي “للحركة الوطنية اللبنانية” بقيادة كمال جنبلاط بمضمونه العملي والدقيق والموضوعي ولا سيما في شق الإصلاح السياسي فيه كان يمكن أن يجنِّب لبنان الأهوال الماضية والحاضرة والأهوال المستقبلية. ومن يدقق في هذا البرنامج يرى أنه يتقدم حتى على “إتفاق الطائف” في أمور عدة.

ويرى المدقِّق أيضاً أنه مثله فتح باباً أمام انتقال لبنان من دولة الطوائف والمذاهب الى دولة مدنية علمانية أي دولة المواطن.

لكن لا بد من الإشارة هنا أيضاً الى أمر آخر وذلك بقصد الانصاف وليس بقصد تعمد الموضوعية والتوازن. وهو أن البرنامج المرحلي “للحركة الوطنية اللبنانية” أعلن رسميا في 18 آب 1975. وكان لبنان بدأ حربه الأهلية وإن غير معلنة رسمياً في 13 نيسان من العام نفسه. ويعني ذلك في رأيي أن توقيته كان متأخراً لأن الأطراف اللبنانيين كانوا دخلوا مناخ الحرب، ولأن حرب لبنان هذه التي استمرت نيفاً و15 سنة ما كانت لتنشب رغم كون أطرافها لبنانيين لهم مصالح ومطالب متناقضة لو لم تقم جهات إقليمية مؤثرة في لبنان بتحريض المسيحيين على المسلمين وبالعكس، ولو لم تعدهم بالاشتراك في حروبهم بشراً وسلاحاً ومالاً. وطبعا لم يكن هدفها إنصاف فريق وظلم آخر، بل ظلم الجميع بتمكينهم من استباحة دماء بعضهم بعضاً وتدمير دولة لبنان بغية السيطرة عليها، واستعمال أرضها وشعبها ومؤسساتها للمحافظة على مصالحها. والجهات التي اتحدث عنها ثلاث هي الآتية:

1- إسرائيل طبعاً التي لم تكن تنظر الى الوجود الفلسطيني في لبنان بارتياح وخصوصا بعدما صار مسلَّحاً في أعقاب هزيمة الجيوش العربية النظامية أمامها في حزيران 1967. وهي كانت تسعى دائما الى استمالة المسيحيين بحجة الدفاع عنهم في وجه المسلمين لاستعمالهم ضد الفلسطينيين، ولاحقاً ربما لإقامة كيان مسيحي يبرر يهودية دولتها. وهي ما كانت لتنجح في ذلك لولا مساهمتها في تخويفهم من المسلمين.

2- منظمة التحرير الفلسطينية التي كان يرى زعيمها الراحل ياسر عرفات بعد هزيمة العرب أن أمله يكمن في الكفاح المسلح الفلسطيني، وأن تحقيقه يحتاج الى جغرافيا تكون قاعدة له أي هانوي فلسطينية. وكان لبنان هذه القاعدة لأسباب عدة معروفة. ولهذا السبب كان دورها كبيراً في تأجيج حرب لبنان واستمرارها على الأقل حتى غزو إسرائيل لبنان عام 1982 وطردها منظمة التحرير منه.

3- سوريا حافظ الأسد التي كانت تريد وضع يدها على منظمة التحرير رافعة شعار “القرار الفلسطيني المستقل” وعلى لبنان لأسباب متنوعة. وتنفيذاً لهذه الإرادة شجعت الفلسطينين على السير في خطتهم، وشجعت المسلمين على الاعتماد عليهم، كما شجعت المسيحيين على مواجهة كل هؤلاء. والهدف كان إيصال الجميع الى الانهاك والخسارة فتكون هي الخلاص والملاذ. وهكذا كان ولكن الى حين. إذ خرجت من لبنان عام 2005. لكن حروبه الباردة المرشحة دائما للتحول ساخنة استمرت في غيابها العسكري واستمرارها الأمني المباشر وغير المباشر وفي غياب منظمة تحرير فلسطين، ولا سيما بعدما حلَّت مكانهما إيران الإسلامية و”حزب الله” ثم دول عربية وإسلامية جذبتها الى الآتون نار الصراع السني – الشيعي.

في النهاية كلمة واحدة إن وقوع كمال بك جنبلاط ضحية مخططات اقليمية وربما دولية لا يقلِّل من أهميته وحجمه ووعيه المبكر للأخطار التي واجهها لبنان. فضله الدائم أنه حذَّر دائما وقبل سنوات من الذي حصل، ودعا الى التسوية الوطنية الشاملة. لكن أحدا لم يصغ اليه. والاصغاء كان يجب أن يبدأ قبل 1969 تاريخ أول صدام فلسطيني – لبناني رسمي مسلح. إذ كان الصدام إيذاناً بأن تنفيذ مخطط الاستيلاء على الدولة أو نصفها أو تدميرها قد بدأ.

لقد زعل الكثيرون من مؤيِّديه لاعتقادهم أنه بدأ زعيماً رؤيوياً حداثيويا وانتهى زعيماً ميليشياويا وفوق ذلك مقتولاً. وهو اعتقاد في غير محله. إذ استمر جنبلاط زعيماً. لكن الأحداث أحياناً تجر أكثر الزعامات وعياً ولا تفسح لها في مجال العودة الى الوراء أو المراجعة. علما أنها كانت ممنوعة.

آمل ان ينجح نجله وليد بك الذي أحبه كصديق في إنجاز ما لم يستطع والده كمال بك إنجازه وفي تجنب المصير الذي لم يختره، علماً أنه لا يخاف منه يوماً وربما ينتظره لا قدَّر الله.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!