هذه قصّة الرجل الذي “بيفكّ مشانق”… وانتهى موقوفاً
منذ بضع سنوات، وبينما كنت في أحد مقاهي الأشرفية في بيروت، لاحظت وصول موكبٍ من ثلاث سيارات رباعية الدفع ذات زجاج داكن ترجّل منها أشخاص يبدون كمرافقين وانتظروا خروج “الشخصية” التي تأخرت لبضع دقائق… للوهلة الأولى ظننت أنّه موكب وزير الدفاع الوطني سمير مقبل صاحب الشركة العقارية التي كانت تبني أبراجاً سكنية في الشارع. وظننت أنه، في أحسن الأحوال، قد يكون موكب وزير الداخلية نهاد المشنوق. ولكن ما ان ترجّلت “الشخصية” حتى اكتشفت انه شخص مجهول ووجهه غير مألوف، أقلّه بالنسبة إليّ.
وقبل أن يلحّ عليّ فضولي لأسأل أحد الحاضرين في المقهى لمحت أحد عناصر قوى الامن الداخلي من احدى مفارز الاستقصاء من بين المرافقين المدنيّين في الموكب. وعندما سألته من يكون هذا، أجابني بأنه “الريّس جو”. فسألته أن يوضح أكثر فقال لي “هيدا بيفكّ مشانق”. حسناً، هل هو عسكريّ أو ذو صفة رسمية حتى ترافقوه؟ فقال: هو مدنيّ وصديق “المعلّم”، ويقصد بالمعلّم قائد الدرك في حينه.
طبعاً أنا الذي عملت في الصحافة الأمنية وعرفت عن كثب الأجهزة الامنيّة كافةً لم أصادف من قبل أحد “أصدقاء” القادة الامنيين وهو يمشي من ضمن موكبٍ أمنيّ. وتبيّن لي في ما بعد أنّ هذا “الصديق” هو جوزف ع. الذي بدأ حياته كنادلٍ في أحد المطاعم قبل أن يصبح موظّفاً لدى أحد أكبر معقّبي المعاملات في مرفأ بيروت. وبعدها، وبفضل علاقات رئيسه الذي كان يكلّفه التواصل مع الأجهزة الأمنية لتسهيل أعماله في المرفأ، نشأت له علاقات خاصّة مع قضاة وضبّاط من الأسلاك الأمنيّة كافّة، وبدأت هنا تظهر عليه ملامح الثراء. فترك المرفأ وبدأ يظهر أمام الملأ وكأنه رجل أعمال، في الوقت الذي لم يكن أحد يدري ما نوع هذه الأعمال.
بعدها بقليل، توفيّ رجل الأعمال الشاب ربيع فخري ليتبيّن لاحقاً بأنّ زوجته المدعوّة نيكول ل. هي من اتّهمت بالإقدام على قتله عبر دسّ السمّ له في الطعام. يومها أدانت المحكمة الزوجة وتمّ سجنها، في حين تمّ الاشتباه بصديقها جوزف ع. بأنه كان على علم بالجريمة قبل أن تقع. فتمّ توقيفه لفترة قصيرة قبل أن يخلى سبيله ليعود الى الملعب الأمني- القضائي بعلاقات أشدّ وأقوى من قبل.
وبدأ يظهر في مكتب مدّعي عام التمييز السابق، معرّفاً عن نفسه في العلن بأنه مستشاره، علماً بأن القضاة لا يملكون مستشارين لا قانوناً ولا عرفاً. اضافةً الى تواجده شبه اليومي في اروقة المديرية العامة لقوى الامن الداخلي أيام مدير عام قوى الأمن الداخلي الأسبق بالوكالة الذي شغل المنصب بعد تقاعد اللواء أشرف ريفي وقبل ولاية اللواء ابراهيم بصبوص.
زد على ذلك، فقد افتتح لنفسه مكتباً في العاصمة بيروت لادارة اعمال الوساطة الأمنية والقضائية من تشكيل عناصر وضباط في المراكز، الى اخلاءات سبل موقوفين وكفّ البحث عن مطلوبين للعدالة وصولاً الى تغطية مخالفات البناء وما شابه ذلك. وكان مكتبه يعجّ بالقضاة والضباط طلباً للشفاعة والواسطة مع رؤسائهم.
وممّا يدعو للعجب أن الاتصال كان يتمّ به عبر هاتفه الخلوي “الرباعي”، ونعني به الرقم المميز المؤلف من أربعة أرقام والخاصّ بالضباط والمحامين العامّين وقضاة التحقيق.
وهكذا تحوّل هذا “المواطن” الذي لا صفة رسمية له الى مرجعٍ قضائيٍّ وأمنيٍّ والى صاحب نفوذ وسطوة. مع العلم بأن كلّ الخدمات التي يقدمها كانت لقاء مبالغ ماليّة.
واللافت انه كان لا يتوانى عن رواية الحكايات في مجالسه عن فساد المسؤولين في الدولة وكيف يتلقّون هداياه، ومن ضمن هذه الحكايات واحدة غالباً ما ردّدها وكانت عن أحد المحامين العامّين في جبل لبنان الذي بعد ان أهداه ساعة “روليكس” الغالية الثمن عاد ليطلب منه ساعة أخرى شبيهة بهديّته لزوجته التي أعجبتها!
وبالاضافة الى أعمال السمسرة، بدأ يدخل في عالم الأعمال، حيث صدر تعميم عن وزارة الداخلية والبلديات بإزالة لوحات الاعلانات عن الطرقات العامة وكلفت قيادة الدرك بالتنفيذ. فقام يومها بتأسيس شركة للاعلانات مع نجل قائد الدرك الأسبق في حينه لضمان عدم ازالة لوحاته وهذا ما حصل.
وطيلة هذه السنوات وصديقته المدانة بقتل زوجها في السجن تعيش ما يشبه حياة الفنادق. فكان يشرف شخصياً على انتقاء العناصر الأمنية المولجين بحراسة السجن، ويحرص على تأمين متطلبات الرغد والرفاهية في غرفتها في سجن النساء، لسنوات.
إلا أنّ عناصر شعبة المعلومات اقتادته، في احدى صبيحات الأسبوع الماضي، الى مكاتب الشعبة في المديرية العامة لقوى الأمن، ولكن مكبّل اليدين هذه المرة بتهمة تلقّي ودفع رشاوى.
ويبدو أن الرجل، الذي استفاد من فساد النظام لسنوات طويلة، سقط اليوم في حملة مكافحة الفساد القضائي وقد يسقط معه “أصدقاء” كثر اذا ما فتح الملف على مصراعيه. وفي حال استفاض في اعطاء افادته الصحيحة أمام المحقّقين فسيكون للحديث تتمّة…
المقال للاعلامي رياض طوق.