تصحيح مالية الدولة: الفقراء أولاً سيدفعون الثمن

نجح وزير المال علي حسن خليل، بحديثه عن إعادة جدولة الدين العام، في إحداث خضة أكبر من المتوقع، ترافقت مع إرباك في الأسواق، وتداعيات سلبية على سندات اليوروبوندز، وكلفة تأمين المخاطر. ورغم تراجع الوزير فيما بعد، وتوضيحه أن الجدولة بمعناها الحقيقي لم تكن هي المقصد، إلا أن الإرباك استحكم بالأسواق واستمر برفع مستوى المخاوف بين المواطنين.
الجدولة غير مطروحة
وبصرف النظر عما إذا كانت خلفيات الوزير من تصريحه “الصادم”، سياسية أم من باب التهويل، أم هي صحوة حقيقية على مخاطر تفاقم الدين العام اللبناني، والتيقّن بأن الوضعين المالي والنقدي قد يخرجان عن السيطرة، ما لم توضع خطة استراتيجية للمعالجة. إلا أن جدولة الدين العام يبقى خياراً غير واقعي، وتبقى الحلول الأكثر واقعية تتمحور حول معالجة الدين. فما المقصود بجدولة الدين وما الذي يجعل خيار الجدولة مستبعداً؟ وماذا يدور في الكواليس لمعالجة الدين العام؟

لا شك أن إعادة جدولة الديون هي عملية اقتصادية مشروعة، تتم عندما يواجه المدين (شخص أو شركة أو دولة) صعوبات في السداد، وعدم القدرة على الوفاء بالتزاماته المالية، في آجال استحقاقها المحددة. وبمقتضى إعادة الجدولة، يتم تغيير بنود الدين المتعلقة بسعر الفائدة، أو بآجال استحقاق الدفعات، عبر تمديد فترة السداد أو بهما معاً.

وعادة ما تلجأ الكيانات المدينة، إن كانت دولة أو مؤسسات، إلى أسلوب إعادة جدولة الديون، كآخر الحلول لمواجهة الأزمات المالية، والأقل تكلفة من إعلان الإفلاس. ولإعادة جدولة الديون العديد من السيناريوهات ولكل منها إنعكاساته السلبية وتداعياته.

وفي حالة لبنان، يُعد خيار إعادة جدولة الديون حلاً غير واقعي، وغير مطروح، لأسباب عديدة، لعل أبرزها امتلاك النظام المالي في لبنان سيولة كافية من النقد الأجنبي، لتمويل العجز، في ظل الظروف الحالية، لعامين مقبلين. وهو ما ذكره بنك غولدمان ساكس نفسه في تقريره الذي تناول فيه فرضيات جدولة الدين العام اللبناني.

كما أن السيناريوهات التي تحتّم إعادة جدولة الديون اعتمادها، فيما لو تم ذلك، متعددة. إلا أن معظمها غير قابل للتطبيق في الحالة اللبنانية، أقله في السنوات القليلة المقبلة، من بينها عملية فرض القيود على مغادرة الودائع، أو وضع يد الدولة على جزء منها، إلى أمد محدد. كذلك عملية إعادة جدولة الدين، من خلال استرداد الحكومة لجزء من سندات دينها في السوق، بعد حسم نسبة معيّنة من قيمتها. جميع هذه السيناريوهات غير واردة، لاسيما أنها تؤدي حكماً إلى زعزعة القطاع المصرفي، وربما إفلاسه. أضف الى كل ذلك، أن لبنان مرتبط بمعاهدات دولية تلزمه حماية السندات السيادية. من هنا، يصبح الحديث عن جدولة الديون والتعرض للسندات اللبنانية أمراً غير وارد.

خفض الدين
يكاد يُجمع خبراء الاقتصاد على أن الجدولة غير مطروحة، إنما التصحيح المالي لعجز الدولة هو ما يجب أن يتصدّر الإهتمام الرسمي. وهو ما تعمل وزارة المال بالفعل على برمجته، حسب مصدر مصرفي مطلع في حديث الى “المدن”. ولا بد أن يشمل التصحيح المالي كافة الأطراف ابتداء من الحكومة (المقبلة) مروراً بالمؤسسات وجميع شرائح المجتمع، بما فيها ذوي الدخل المحدود والفقراء ووصولاً إلى المصارف، وليس العكس.

وانطلاقاً من سوداوية مستقبل لبنان، كصاحب إحدى أعلى معدلات الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، في العالم، (تبلغ نحو 150 في المئة)، حث صندوق النقد الدولي لبنان مؤخراً، على إجراء “تصحيح مالي فوري وكبير، لتحسين القدرة على الاستمرار في تحمل الديون”. وهو ما تعمد وزارة المال إلى التخطيط له “وإن نظرياً”، ريثما يتم تشكيل حكومة جديدة.

إجراءات قاسية
وينطلق برنامج معالجة الدين العام، الذي تعمل وزارة المال على تحضيره، حسب المصدر، من إجراءات تشمل كل الفئات، تساهم في رفع الواردات، وخفض النفقات بشكل ملحوظ، أهمها في قطاع الكهرباء، من خلال رفع التعرفة أضعاف ما هي عليه اليوم، وزيادة جباية الضرائب وضبط التهرب الضريبي، ورفع بعض  الرسوم، من بينها فرض 5000 ليرة على البنزين، إضافة إلى وقف التوظيف خصوصاً في القطاع التعليمي الرسمي، وإعادة هيكلة القطاع العام بما يتناسب وحاجاته، وإعادة النظر بسن التقاعد إلى جانب خفض جزئي للرواتب التقاعدية.

هذه الإجراءات وسواها ستحملها الفئات المتوسطة والفقيرة، وهنا يأتي دور الدولة في تحمل عبء خفض الدين، تمهيداً لمساهمة القطاع المصرفي بذلك، “فالمصارف لن تساهم بخفض الدين العام، ما لم تلحظ مساهمة الدولة وجديتها بذلك”، يقول المصدر. ويتجلى ذلك بداية في سد مزارب الهدر والفساد في مؤسسات الدولة وصفقاتها. حينها فقط، يمكن للمصارف أن تساهم في إعادة جدولة الديون، من خلال شراء سندات منخفضة الفوائد، كبديل عن السندات ذات الفوائد المرتفعة، على غرار ما حصل عقب مؤتمر باريس2.

ويبقى الأهم من تلك الإجراءات، ما هو أكبر من وزارة المال والمصرف المركزي، هو تشكيل الحكومة والتزامها بتنفيذ إصلاحات، تخوّلها الاستحصال على أموال مؤتمر سيدر، للمباشرة بمشاريع إصلاحية على كافة المستويات.

ما تحاول وزارة المال التأسيس له، في الوقت الراهن، الذي يُعد وقتاً ضائعاً منذ 8 أشهر في ظل الفراغ الحكومي، هو التحضير لطاولة مستديرة هدفها خفض عجز يفوق 10.5 في  المئة ودين عام يفوق 150 في المئة من الناتج المحلي على حساب الجميع من دون استثناء.

عزة الحاج حسن – المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!