الفاليه باركينغ: عصابات برتبة شركات

عند كل زاوية، وعلى كل رصيف، تجد فرداً من تلك العصابات التي احتلت الشوارع (الإنترنت)
“سأبلغ المحافظ زياد شبيب بما تفعلونه”، أقول لموظف “الفاليه باركينغ” الذي يستولي ويحرس رصيفاً عاما. يجيبني بهزء: “نحن نكسر راس المحافظ والذي أكبر منه”.

في تلك الليلة، رحت أتجول ما بين تقاطع السوديكو وشارع عبد الوهاب الإنكليزي ومونو والتباريس وكل الأحياء والزواريب المجاورة وصولاً إلى شارع لبنان ومتفرعاته، بحثاً عن تلك الأربعة أمتار لرصف سيارتي، من دون جدوى. فعند كل زاوية، وعلى كل رصيف، تجد فرداً من تلك العصابات التي احتلت الشوارع، جاهزاً أو “متطوعاً” كي يأخذ عنك مهمة ركن سيارتك.

كمربعات أمنية
ربما، قانونياً (ويا لها من كلمة مطّاطة، لبنانياً) يحق لما يسمى “فاليه باركينغ” أن يتولى الاهتمام بزبائن محل أو مطعم أمام أمكنة الوقوف المخصصة له، “المرخصة” على ما نفترض كموقف خاص، في مسافة محددة طبقاً لشروط البلدية. بل ومن الأفضل، أن تكون ما يسمى “شركة فاليه باركينغ” مالكة لمساحة أرض هي عبارة عن موقف سيارات.

لا، الأمر هنا عبارة عن استيلاء على الفضاء العام، على الأرصفة والشوارع على نحو منظم وواسع النطاق. إذ، أن هذه الشركات وزمر شبانها، يتقاسمون باتفاقات، تشبه توزيع مناطق النفوذ الميليشياوية، المساحات المحيطة بالبؤر الأساسية التي يكثر ارتيادها منذ بداية المساء وحتى الفجر.

في تجربتي البائسة، أتحدث هنا عن ما يشبه المربعات الأمنية: المحيط الكامل لمنطقة مونو وطريق الشام. حيث مع بداية الغروب، تنتشر الأكشاك الزجاجية المتنقلة مع “حراسها”، ليبدأ العمل في صيد السيارات بعد تأمين الاحتلال التام للمواقف العمومية.

الحصانة
بحيلة خبيثة مثلاً، يركن “الموظف” خمس سيارات على نحو مدروس في تباعد المسافات بينها، بحيث يحجز فراغات كافية لركن ثلاث سيارات إضافية. هكذا يتحكم بالأرض، ويستولي عنوة على حق أي مواطن. إذ لم يعد “الفاليه باركينغ” مجرد خيار أو اقتراح لـ”هواة” الرفاه، بل هو إجباري، يشبه فرض الخوّة.

وإذا كان واحدنا يستهول الصعود بسيارته على رصيف المشاة، فهذا ليس من شيم فرق “الفاليه”، البارعة في اقتحام حتى مداخل البنايات. إنهم مطمئنون تماماً لما يفعلونه. لا يشعرون بأي تخوف من تبعات أو محاسبة. فذاك الذي استهزأ بتعويلي على المحافظ والشكوى إليه، لا بد أنه يمتلك “حصانة” ما، حماية تامة تفوق سلطة المحافظ على الأرجح، طالما أن دوريات الشرطة المتواجدة دوماً هناك، تشهد طبعاً ما يحدث ولا تتدخل. وسلوك الشرطة ليس عن إهمال، إنما هو أشبه بالتفاهم أو التواطؤ على الأرجح. من يعلم؟

ثقافة لبنانية
وازدهار هذه “المهنة” وشركاتها، في بيروت وجبل لبنان خصوصاً، وتمدد سطوتها وتثبيت أعرافها كأمر واقع لا يمكن تجنبه، وكجزء من متطلبات يومياتنا التي لا مهرب منها، يمكن تعليله بـ”ثقافة” لبنانية، قوامها الاستعراض الاجتماعي و”شراء” رفعة الشأن والمكانة، عبر سلوكيات التبذير التي رسختها مفاسد الأثرياء الجدد أو المتشبهين بهم. فيلهث معظمهم بطلب خدمات ما يسمى V.I.P، وترجمتها المبتذلة المعنى والمحتوى “شخص بالغ الأهمية”. وهذا ما يخاطب في ذهنية لبنانية رائجة الميل نحو “الانتفاخ” أو التشاوف البراني والاستعراضي.

على هذا النحو، يسع المقهى أن يضع سعراً فاحشاً لنرجيلة واحدة، ويحيط بها خادم النار، و”معلم” التنباك، وخادم الطاولة، ومدير الصالة، وساقي القهوة والشاي، مضاف إليها طبعاً شاب الفاليه باركينغ، فينتفش “الزبون” زهواً، مستدعياً في مخيلته مكانة أمير أو باشا أو زعيم.. ويحذو حذوه من يقتدر ومن يكابد ليجاريه ليدفع فاتورة تدخينه لنرجيلته ما يوازي معيشة عائلة ليومين على الأقل. وهذا الزبون هو على شاكلة قسم وافر من اللبنانيين. ولا نغفل، بطبيعة الحال، قسماً كبيراً من النساء اللبنانيات هن في أسلوب حياتهن على مثال نجوم التلفزيون والفن والمشاهير أو على مثال حريمي، يسرفن في البذخ ومظاهر الاستهلاك واللامبالاة في الإنفاق والتبذير.

وهذا كله ثقافة رائجة ومهيمنة، ترفدها اقتصادات تربّح وجمع أموال، هي في مجمل الأحوال من مصادر تكسب وفساد سياسي واجتماعي واقتصادي فاحش ومستشر. وعلى هذا المنوال، يكون تكسب أفراد وموظفي “الفاليه باركينغ” وشركاته، فرع من فروع ذاك الفساد العميم. 

المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!