كرامة العاملات الأثيوبيات أرفع من قوانيننا المشينة

عزة الحاج حسن – المدن
لا تترك مكاتب استقدام العاملات المنزليات فرصة إلا وتقتنصها، لجني مزيد من الأرباح، وإن كان على حساب أسر لبنانية، ذات الحاجة الملحة لمساعِدة منزلية، أو حتى على حساب العاملة نفسها، التي تحولت بممارسات بعض المكاتب إلى “سلعة” يرفعون ثمنها عند انخفاض العرض، وارتفاع الطلب عليها.

ليس تهكماً على أصحاب مكاتب استقدام العاملات، وإنما للإضاءة على استغلال بعض المكاتب والسماسرة لأزمة تعليق استقدام عاملات منزليات من التابعية الأثيوبية إلى لبنان، وابتزازهم المواطنين من جهة، وعلى استخفاف وزارة العمل بالقضية، وعدم جديّتها بالتعامل مع ملف العمالة الأثيوبية، وإفساح المجال أمام نافذين في وزارة العمل لاستغلال الظرف لتحقيق مكاسب مادية “غير مشروعة” من جهة أخرى.

لا عاملات أثيوبيات جدد في لبنان منذ قرابة الشهرين، والعاملات في الخدمة المنزلية المتواجدات في مكاتب الإستقدام حالياً، يُخضعهن السماسرة لعملية العرض والطلب، فيبتزون العائلات اللبنانية ويضاعفون المبالغ المطلوبة، والوزارة لا تقف موقف المتفرّج وحسب، بل تساهم بطريقة أو بأخرى بعرقلة الملف وابتزاز الناس.


لا مظلة قانونية

لطالما كانت العمالة الأثيوبية، الوافدة إلى لبنان للخدمة المنزلية، تعمل من دون أي ضوابط أو عقود تحدد شروط عملها، وحقوق العاملات، وأصحاب العمل، في ظل عدم وجود قانون يرعى استقدامهنّ وينظم عملهن، لاسيما أن المادة السابعة من قانون العمل اللبناني قد استثنت من أحكامه العاملات في بيوت الأفراد، ما جعل العاملات المنزليات من دون أي مظلَّة قانونية ترعاهن، وهذا ما شكّل أخطر المشاكل التي تواجهها العاملات الأجنبيات في المنازل، وأصحاب العمل على السواء.

إلا أنه في السنوات الأخيرة عمدت أثيوبيا، البلد الناهض اقتصاديا واجتماعياً، إلى العمل على تنظيم عمالتها الوافدة إلى كافة الدول، لأسباب عديدة ترتبط بحماية حقوق مواطنيها، وتعزيز أوضاعهم المهنية والمعيشية في بلاد الإستقدام، بموازاة تشددها على تدريب العمالة قبل إيفادها إلى دول الإستقدام، من هنا تم التعامل مع لبنان على غرار باقي الدول، كالسعودية والإمارات والأردن وغيرها.

ومنذ بداية العام 2017 باشر الطرفان اللبناني والأثيوبي العمل على تنظيم استقدام العمالة المنزلية لجهة إبرام العقود. وانتدبت الدولة الأثيوبية وفداً إلى لبنان، كما باقي الدول، لإبرام مذكرات تفاهم تمهيداً لتوقيع الإتفاقية الثنائية، وبدأت المفاوضات بداية بين السفارة الأثيوبية ووزارة العمل اللبنانية، كما يقول مصدر في وزارة العمل في حديث الى “المدن”، وتم التفاهم على البنود الأساسية للإتفاق. ثم أتى وفد أثيوبي تقني إلى لبنان وبدأت النقاشات التفصيلية مع الوزارة، لوضع اللمسات الأخيرة، قبل التوقيع على الإتفاق النهائي “إلا أن وزير العمل محمد كبارة وبشكل مفاجئ تمنّع عن التوقيع في المرحلة الأخيرة”، وتم تعليق الأمر حتى اللحظة.


كواليس الأزمة

استمرت المفاوضات لأشهر عديدة، واستمرت الوزارة، حسب المصدر، بالمماطلة في الموافقة على التوقيع على الإتفاقية رغم إمهال الجانب الأثيوبي للبنان ثلاث مرات، إلى أن انتهت جميع المهل، فقرر الجانب الأثيوبي وقف إرسال العاملات إلى لبنان وإغلاق الباب كلياً.

وعن الأسباب، يوضح مصدر آخر في وزارة العمل في حديث إلى “المدن”، أن الذرائع التي كانت الوزارة تتذرع بها للتهرب من توقيع الإتفاقية مع الجانب الأثيوبي لم تكن منطقية، فالذريعة الأولى هي “أن الحكومة في مرحلة تصريف الأعمال، ولا تفويض للوزير لتوقيع إتفاقية مع أثيوبيا”. إلا أن الواقع ينسف هذه  الذريعة “إذ أن الأزمة مع أثيوبيا سبقت دخول الحكومة في مرحلة تصريف الأعمال وهي تعود إلى العام 2017 كما أنه بإمكان وزير العمل، حسب القانون، الإستحصال على تفويض من رئيس حكومة تصريف الأعمال، يخوله التوقيع على الإتفاق.

20 ألف دولار!
ويسأل المصدر: إذا كانت الذريعة أن الحكومة في مرحلة تصريف أعمال، كيف تفسر وزارة العمل، ومكتب الوزير تحديداً، منح عدد من التراخيص لمكاتب إستقدام جديدة الأسبوع الفائت؟ إضافة إلى 300 رخصة منحها الوزير ومقربون منه، في المرحلة السابقة، إلى مكاتب استقدام غالبيتها غير مطابقة للشروط القانونية المفروضة على المكاتب، وتقاضى أحد المقربين من الوزير ثمن كل ترخيص نحو 20 ألف دولار.

أما الذريعة الثانية، حسب المصدر، فهي “أن رفض التوقيع على اتفاقية، من شأنها تحسين شروط العمالة الأثيوبية، يعود إلى الخوف من أن تحذو العمالة من الجنسيات الأخرى حذو نظيرتها الأثيوبية، وتطلب رفع سقف شروط عقودها”. والواقع هنا أيضاً ينسف هذه الذريعة، إذ أن حجم العمالة الأثيوبية تفوق 77 في المئة من مجمل العاملات الأجنبيات في الخدمة المنزلية، في لبنان (63890 إجازة عمل جديدة عام 2017 للجنسية الأثيوبية من أصل 82779 إجازة عمل لمجمل الجنسيات) كما أنها من بين الأدنى شروطاً، ما يعني أن تحسين شروط عملها لا ينعكس إيجاباً على العاملات الأثيوبيات وحسب، إنما أيضاً على أصحاب العمل والمجتمع اللبناني عموماً، كما يحد من عمليات الإتجار بهن، لجهة توظيفهن في ظروف غير إنسانية، والدليل وجود 300 عاملة إثيوبية في السجون اللبنانية (حسب أرقام نقابة مكاتب إستقدام العاملات في الخدمة المنزلية).


“تجّار” الوزارة

رفض توقيع الوزير على الإتفاقية لم يكن مبرراً، لاسيما أن العقد الجديد لا يتضمن تغييرات جذرية، إنما فقط  بعض الضوابط، ذات المنحى الإنساني، كضرورة تأمين مسكن وعمل لائقين للعاملة، وعدم منعها من التواصل مع ذويها، وعدم حسم راتبها الأول، ومنحها يوم راحة، وغيرها من الإجراءات التي تضمن معاملة العاملات كبشر وليس كـ”آلات”، إضافة إلى تعديل واحد يتعلق برفع الراتب الشهري من 150 دولار إلى 200 دولار للعاملات اللواتي يتمتعن بمؤهلات إضافية، كاللغة العربية أو غيرها من اللغات.

الإتفاقية نموذجية، ويمكن تطبيق شروطها من دون “اتفاق”، في حال توفر في لبنان تدقيق ورقابة فاعلة من قبل وزارة العمل، والجهات الرسمية. إلا أن الدولة الأثيوبية أرادت من الإتفاقية أن تؤمن مظلة قانونية لعمالتها في لبنان، والحد من ظلمهن والإتجار بهن.

الذرائع التي تذرعت بها الوزارة أكثر من مرة، لعدم توقيع الإتفاقية مع الجانب الأثيوبي، تثبت صحة ما كشفه أحد المتابعين لملف العمالة الاجنبية، بأن الإتفاق مع الجانب الإثيوبي تم تعليقه بسبب شروط فرضها أحد المحيطين من الوزير كبارة، والمقربين منه، خلال المفاوضات مع الوفد الإثيوبي، وتمحورت الشروط حول سعيه للحصول على “إكرامية مالية” من السفارة، مقابل توقيع العقد، أو أن يتم حصر ملف استقدام العاملات بالخدمة المنزلية من أثيوبيا فيه شخصياً، بمعنى أن يحصل الشخص المعني (المقرب من الوزير) على عمولة، من كل عقد فردي يتم توقيعه لاستقدام عاملة أثيوبية.

السفارة رفضت أي من الشروط “الإنتهازية” التي فرضها الشخص المقرب من الوزير، وقررت حينها إمهال لبنان مرات عديدة لتوقيع الإتفاقية، وهو ما لم يحصل حتى الساعة، ما اضطرها إلى تعليق عملية الإستقدام كلياً.

هذه الصورة نقلها لـ”المدن” أكثر من متابع للملف، من داخل الوزارة وخارجها، إلا أن المدير العام في وزارة العمل جورج أيدا اكتفى بالتوضيح، خلال حديثه الى “المدن”، بأن الإتفاقية تمت الموافقة عليها من قبل الوزارة، وأرسلت مؤخراً إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء، بانتظار توقيعها بعد تشكيل الحكومة، لاعتبار أن توقيعها يستلزم توقيع الحكومة مجتمعة، لافتاً إلى أن الوزارة طلبت من الجانب الأثيوبي مهلة جديدة، مراعاة للظرف السياسي الذي يمر به لبنان، “إلا أن الجانب الإثيوبي لم يتجاوب حتى اليوم”.


ابتزاز المكاتب

مماطلة وزارة العمل وتسليمها الملف للسماسرة و”التجار” المحيطين بالوزير، والمساهمة في تعليق إرسال عمالة منزلية من أثيوبيا، أفسحا المجال أمام مكاتب الاستقدام لابتزاز المواطنين، لاسيما المضطرين منهم لاستقدام عاملة، لأسباب عائلية أو مرضية. فقد عمدت غالبية المكاتب إلى مضاعفة المبالغ المفروضة على المواطنين لاستقدام عاملة، نظراً لـ”ارتفاع الطلب وانخفاض العرض”، وفق تعبير أحد أصحاب المكاتب، علماً أن العاملات اللواتي يتم التفاوض على “أسعارهن”، حسب تعبيره، هن متواجدات في لبنان منذ ما قبل الأزمة. بمعنى أن المكتب لم يتكلّف على أي منهن أكثر من سعر “بطاقة السفر” من إثيوبيا إلى لبنان وبعض العمولات أي ما لا يزيد عن 500 دولار. ويفرض أصحاب المكاتب اليوم على أصحاب العمل (العائلات) سداد ما يتراوح بين 1800 دولار و2500 دولار لاستقدام العاملة، بدلاً من 900 دولار فقط قبل الازمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!