كافيـ…ـه (قصة قصيرة – وداد طه )
كان سعيد نائمًا حين رنّ الهاتف. مدّ يدَه نحوه، وبعينين مغمضتين أقفل الخطَّ. عاد الهاتفُ يرنّ. تناوله متبرّمًا. قال عزّو من الجهة الأخرى: “يجب أن تحضر سريعًا. لقد وضعوه في غيابك.”
لم يُنهِ الصبيُّ جملتَه حتّى قفز سعيد من مكانه. أبعد الشرشفَ الذي غطّتْه به أمُّه ليلًا، وقصد الحمّام. غسل وجهَه، ثمّ تناول بلوزتَه الكحليّة، ومشِّ صوب باب البيت. حاولتْ أمُّه أن تستوقفه، لكنّه توجّه نحو الدرَج، تاركًا المصعد، وعلاماتُ الدهشة على وجهها البيضاويّ.
***
حين استأجر الكافيه من الدكتور خير الدين، لم يتشدّدْ في مُفاصلته على الإيجار؛ فقد كان همُّه أن يؤمّن بابَ رزقٍ لأخيه الأكبر توفيق، العائد قريبًا من السعوديّة.
على مدى شهرين، كان عزّو يأتيه بالأخبار: أخبارِ أخيه، والطبيب خير الدين، والنساءِ اللواتي يزرن المكان، والأطعمةِ التي تُعدّها زوجةُ أخيه للزبائن، والأحاديثِ التي يسمعها من روّاد الكافيه. قال له ذاتَ مساء وهما يتمشّيان قرب الشاطئ:
“اجتمع بالأمس أربعةُ أطبّاء في الكافيه. طلبوا قهوةً وأراجيل وبوظة. هل تصدّق أنّهم تقاسموا آخرَ ألف ليرة بينهم؟ دفع كلٌّ منهم مئتين وخمسين ليرة. ظلّ أخوك ساعةً ينتظر أن يعطوه الحسابَ كي يغلق الكافيه. هل تعتقد، يا سعيد، أنني حين أصبح طبيبًا سأكون بخيلًا مثلهم؟”
نظر سعيد إلى الطفل الذي بدا له أطولَ من المعتاد، وربّت على كتفه. لم تكن تلك الأخبارُ تقلق سعيدًا أو تفرحه. بدا طبيعيًّا أن يمارس الاستخبارَ ــ ــ فهي عادةٌ لم يتمكّن من التخلّص منها حتّى بعد مضيّ عشر سنوات على تركه الخدمةَ العسكريّة وتقاعدِه المبكّر. لكنّ شيئًا ما في داخله كان يهمس له بصوتٍ خفيّ لم يتبيّنه إلّا مع الأيّام.
***
حين انقطع توفيق عن مواظبة العمل في الكافيه، اضطرّ سعيد إلى العودة من باريس إلى لبنان، ريثما يجد حلًّا للمشكلة. كان غارقًا في الفواتير المتكدّسة أمامه، يشعر بالغيظ من أخيه الأكبر الذي أوقعه في ديونٍ لا يُفترض أن يكون معنيًّا بردّها عنه. قال لأمّه غاضبًا: “لقد آثرتُه على نفسي. متى سيستفيق من وهْم المكاتب الفاخرة في السعوديّة؟ قولي له إنّه في لبنان، وإنّني رددتُ ديونَ الفواتير المتراكمة. ولكنْ عليه أن يوفي دفعاتِ القرض إلى البنك، ولو اضطررتُ إلى مقاضاته وحبسِه!”
لم تنطق أمُّه بكلمة؛ فهي التي كانت قد أقنعتْه بأن يتركَ باريس التي كان يخطّط لدراسة الموسيقى فيها، وأن يعود إلى لبنان ليفتحَ لأخيه الكافيه. وها هو الآن يغرق في فواتيرها الباهظة.
***
وصل سعيد إلى الكافيه، فوجد فوضى ورملًا وآثارَ أقدامٍ عاثت بسكينة المكان. جلس على الدرَج بصمت، ثمّ تناول هاتفَه والتقط صورًا لكلّ شيء: الأصص، والطاولات، واللافتة المنزوعة من مكانها.
راح يقلّب الصور: هذه الياسمينة، كيف تجرّأوا على قتلها؟ والسّروات الصغيرات، كيف سيَبِتْن خارج بيتهنّ الليلة؟
ولم يلتفت إلى المولِّد الكهربائيّ مرّةً واحدة.
كان عزّو قاصدًا المدرسةَ في الصباح الباكر حين وجد أخاه على الدرج. هرول إليه، وجلس إلى جانبه، وراح يربّت على كتفه قائلًا: “لن أقول للماما أنّي سأتغيّب عن المدرسة. هل تريد فنجانَ قهوة؟”
حين عاد سعيد إلى البيت، وجد أختَه تصرخ في الخادمة كعادتها. توجّه إلى غرفته، وتمدّد على السرير. منذ الصباح ترنّ في أذنيه جملةٌ ردّدها والده: “مَن يأكل حقّك كُلْ قلبَه!” تناول الهاتف. استعرض الأسماءَ بسرعة. وحين لاح اسمُ مَن يريد، ضغط على الصور وأرسلها كاملةً، ثمّ ذيّل رسالته: “لقد طفح الكيل! انظرْ ما عليك أن تفعله، وإلّا سيكون لي شأنٌ آخر!”
ما كادت الإشارةُ الزرقاءُ تؤكّد وصولَ رسالته حتّى هاتَفَه أحمد مسعود، زميلُه ومعاونُ مسؤولٍ كبير. حاول أحمد أن يهدّئ من ثورة سعيد؛ وكان الأخير قد هاتفه منذ أسبوع حين اكتشف أنّ ذلك المسؤول هو مَن سهّل للطبيب خير الدين وضعَ المولِّد أمام الكافيه، من دون إذنٍ أو رخصة. ليس ذلك فحسب، بل إنّه يزوره ليلًا في تلك العيادات الخاصّة، التي اكتشف سعيد أنّها هي الأخرى غير مرخّصة من وزارة الصحّة. لم يتأكّد سعيد من أسباب تلك الزيارات، لكنّها بدت له مريبةً. ثم إنّ الدكتور خير الدين يقدّم شروحًا وافية ومجّانيّة عن مريضاته لمن يجالسه؛ وقد قال له مرّةً بعد أن دخلتْ سيّدةٌ محجّبةٌ إلى الكافيه وطلبتْ قهوةً: “إنّها ترتدي سترينج بدوِّخ!”
ــــ أنت تحرجني يا سعيد. قلتُ لك لن تكون إلّا راضيًا.
ــــ أوّل الشهر بعد يومين. لن أدفع له فلسًا إضافيًّا. منذ شهرين وأنت تمهلني، ومحلّي مغلق. إنْ كنتم تستسهلون الكذبَ، فلن أشاركَكم الكذبَ على نفسي. سأنتظر حتّى الصباح. وبعد ذلك، سأتصرّف.
ــــ حسنًا. إهدأْ يا صديقي. كيف الحجّة إمّ محمود؟
أغلق سعيد الهاتف واستسلم للتعب.
كان سعيد يحتسي القهوةَ مع منى في الأوتيل حين رنّ هاتفُه. لم تلتقط عيناها الخضراوان أيَّ إشارةٍ إلى جنس المتحدّث؛ فهو حريص جدًّا على أن يجعل نبرةَ صوته صفرًا من المشاعر. هزّ برأسه ألفَ مرّةٍ خلال ذلك الاتّصال، وزمّ شفتَه السفلى، وقوّس عينيه، لكنّه لم يقل كلمةً واحدة. طلب منها أن ترتدي ثيابَها. لم يعتذرْ عن إلغاء العشاء. قاد السيّارةَ بتوتّرٍ ظاهر. أنزلها عند أقرب نقطةٍ تجد فيها سيّارةَ أجرة، وغاب.
لم يشعرْ بأنّ اتّصال المحامي يطمئن، فعاود الاتّصالَ به.
ــــ إيه ميتر، شو القصّة؟
ــــ وين صرت؟
ــــ عالطّريق، قلّي شو صاير؟
ــــ الطبيب خير الدين وُجد مقتولًا بعد الظهر في عيادته. وحين سألوا السكرتيرة قالت، وهي تبكي بجنون، إنّكَ مَن قتله. أين أنت؟
أغلق سعيد الهاتفَ وهو لا يصدِّق ما سمعه. هل مات غريمُه بهذه السهولة؟ مَن قتله؟ دارت الأفكارُ كالإعصار في رأسه. وما كاد يدلف إلى البيت، حتّى أمسك به شرطيّان كانا في انتظاره، واقتاداه أمام أعين سكّان البناية المتجمهرين. لم يلتفت سعيد إلى أيٍّ منهم. كلُّ ما رآه: بقعةُ دمٍ حمراء، وجسدُ خير الدين ملقًى فوقها.
دار التحقيقُ في المفرزة كمطحنةٍ في رأسه. أعادوا الأسئلةَ عينَها ليلةً ونهارًا كامليْن. طلب المحامي، فقيل له إنّه تنازل عن الدفاع عنه. أصرّ على رؤية محاميةِ الطبيب خير الدين. جاءته وعيناها تغليان (يعرف سعيد العلاقة التي كانت بينها وبين المغدور). حاول إقناعَها بأنّه لم يقتلْه، وأنّه كان ليلتها في مكانٍ آخر. سألته أين؟ تحفّظ عن الإجابة، إذ لم يُرد أن يخبرَها أنّه كان في الفندق مع منى. ردّت: “حين تعرف أين كنتَ، هاتفْني!”
***
مَن هو ابنُ الجنّيّ الذي نصب له هذا الفخّ؟
أرهقته الاحتمالاتُ الكثيرة ــ ــ فشخصٌ مثل الدكتور خير الدين له خصومٌ وأعداءٌ كثر، وهو ارتكب العديدَ من الأخطاء، وليس نصبُ ذلك المولِّدِ إلّا إحدَها.
طلب من المحقّق إجراءَ مكالمةٍ هاتفيّة. بعد مشاورات ومماطلة، مدّ المحقّق يدَه بالهاتف قائلًا بتهكّم: “تفضّل مسيو، بتحبّ نطلبلك قهوة كمان؟”
ــــ ألو سيّدة مروة الهاني؟ أجل، لا تعرفينني. أنا سعيد مملوك. لديّ موضوع جيّد للنشر في محطّتكم، إنْ كنتِ مهتمّة. هل يمكن أن تحضري إلى المَفْرزة؟ بالطبع يُسمح للزّوار بالزيارة؛ فأنا لم أُحَلْ بعد على قاضي التحقيق. أنتظركِ.
بدت السيّدة الهاني مهتمّةً بما يقول. دوّنتْ كلَّ كلمة، ووضعتْ إشاراتٍ حمراء تحت العديد منها. طلبتْ منه أسماءَ الجيران الذين وقّعوا العريضةَ المرفوعةَ إلى المحافظ، ورقمَ الحارس الذي يملك فيديو كاميرات المراقبة في المبنى، وأسماءَ مَن قصدهم للوساطة أو حاول من خلالهم تخويفَ الطبيب من عاقبة أفعاله. أعطاها سعيد ما أرادته. وعدتْه بأن تفعل ما يمليه عليه ضميرُها المهنيّ والإنسانيّ. ثمّ خرجتْ.
***
كاد جسدُ سعيد يتفسّخ في المَفْرزة؛ فهو لم يستحمّ منذ مدة طويلة. كانت قد مضت أسابيعُ وهو هنا من دون محاكمة. كما أنّه لم يشربْ فنجانَ قهوة واحدًا، ولم يدخّنْ، ولم يرَ أمّه، ولم ينم ليلةً كاملة، ولم يأكلْ إلّا الفتات.
اقتاده المحقّقُ إلى قاعة المحكمة. قال وهو يسخر منه: “زبون مرتّب. متوصّيين فيك. إمّك داعيتلك بليلة القدر. قلتلي إسمك سعيد؟ مشّي يا فرحان.”
في قاعة المحكمة، لاحظ سعيد أنّ أحدًا لم يحضرْ باستثناء عزّو، الذي جلس إلى جانب والدته، وحين رأى سعيدًا يدخل تحرّك صوبه وقال له: “مبارح كتبتلك إسمَك على ورقة وحطّيتها تحت نهر جاري. هيك قالتلي ستّي أعمل عشان يتيسّر أمرك.” ابتسم سعيد الذي لم يتمكّنْ من توكيل محامٍ جديد بعد أن تخلّى مارون شكري عن قضيّته، فكان عليه أن يواجه القاضي بمفرده. كما غابت محاميةُ الطبيب لأسبابٍ يجهلها. فلم يُبَتّ في الحكْم، وعاد سعيد إلى جدران السجن.
كان قد مضى على آخر مرّةٍ زارته منى عامان ونصفُ العام، منذ المحاكمة التي لم يحاكم فيها. وها هو المحقّق، الذي بات أحدَ أصدقائه بحكم الإقامة من دون حكمٍ طوال تلك المدّة، يرافقه لكي يراها. جلبتْ منى طفلَها معها. وحين جلس، رسم على ملامحه ابتسامةً خفيفةً، وهنّأها بالمولود من الرجل الذي تزوّجته حديثًا، وداعبه. حاولتْ أن تتكلّم، فأسكتها. جلستْ بعض الوقت، ثمّ قامت وغادرت الغرفة.
ظلّ جالسًا في غرفة المحقّق صامتًا. أما المحقّق فقد مدّ ساقيْه على المكتب، وراح يقلّب القنوات على شاشة التلفزيون. فجأةً، انتبه سعيد إلى وجهٍ يقول:
“هنا، ومنذ سنتين ونيّف، قُتل الطّبيب محمود خير الدين بدمٍ بارد. اليوم، تتكشّف أوراقُ الحقيقة واحدةً تلو الأخرى. سعيد مراد، المتّهَم بالقتل، يقبع بين جدران السجن من دون محاكمة. فهل تنتظر الدماءُ التي مازالت تلطِّخ أرضَ هذه الغرفة أن يقوم صاحبُها وينطق بالحقيقة؟ من أمام قصر العدل، كانت معكم شهيرة البدوي.”
نظر الرّجلان واحدُهما إلى الآخر. لم يبدُ على وجه أيّ منهما أيُّ تعبير. قام سعيد من مكانه وتوجّه وحده إلى زنزانته. شعر المحقّق أنّ سعيدًا غيرُ قادرعلى رفع قدمه عن الأرض. لكنّه تركه يسير وحيدًا. مازحه قائلًا: “إحلقْ ذقنك، بلكي المرّة الجاية بتجي العروس.”
***
مضت جنازةُ سعيد بصمت. لم يمشِ فيها غيرُ أمّه وعزّو، وغطّتها وسائلُ الإعلام كافّةً. كان قد انتحر حين عاد إلى الزنزانة ذلك العصر؛ أمسك شفرةَ حلاقة وحزّ بها وريدَه. سألتْ شهيرة البدوي محدّثتها: “هل أعود إلى بيت أمّه الآن؟”
“فورًا،” أجابتها السيّدة الهاني، التي عُيّنتْ مديرةً للمحطّة منذ سنتين ونصف.