“إنترا”: هل تجاوز جورج غانم شروط الوثائقي؟
من الصعب في لبنان ملامسة الحقيقة. التركيبة اللبنانية المتفككة والمتمترسة في خنادق الطائفية والدين والسياسة والمجتمع، تجعل مهمة أي صانع أفلام وثائقية، بمثابة مسير حذر وسط حقل من الألغام حتى وإن نجح خلال بحثه في الحصول على خريطة الألغام!
لم يكن منتظراً أن يكشف فيلم “إنترا” للإعلامي جورج غانم معلوماتٍ تُروى للمرة الأولى؛ فقضية بهذا الحجم، حتى وإن كانت غير معروفة للأجيال اللاحقة، فهي بطبيعة الحال خضعت لما هو معتاد في السياسة اللبنانية من تسويات وصفقات وحملات. لكن ما سيتم التوقف عنده هو المعالجة الإعلامية البحتة للعمل ومحاولة إخضاعه لمعايير الفيلم الوثائقي. ويُسجل لجورج غانم استمراره في صنع هذا النوع من الأعمال “النخبوية”، ويُسجل لقناة MTV أنها خصصت حيزاً من وقتها ومواردها المالية لقالب إعلامي مختلف عما يعهده اللبنانيون حالياً من برامج مضيعة الوقت في القنوات المحلية.
هناك موجة عالمية حديثة تفترض أن الفيلم الوثائقي لا يخضع لشروط محددة، وبالتالي يمكن لصانع الأفلام الوثائقية التفنن في توليف عمله بناء لطبيعة القضية.
و إذا ما أسقطنا النقاش حول صحة هذه “المدرسة”، فإن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال التخلي عن الشروط الفنية لإنتاج الوثائقي، وهو ما وقع فيه “إنترا” شكلًا ومضمونًا في جزئيه.
يستهل جورج غانم عمله بمقدمة تصلح للصحافة المكتوبة أكثر منها للتلفزيون، كما أنها خارج سياق مقدمات الفيلم الوثائقي الذي من المفترض أن يجذب إنتباه المشاهد في دقائقه الأولى بتقديم “إشكالية” العمل والسؤال الذي يحاول الباحث أو المُعد الإجابة عنه.
في قضية مثل “بنك إنترا”، كان يمكن للعمل أن ينطلق من خيط غير مكشوف سابقاً أو من واقع مخفيّ يعكس قضية إقتصادية أو سياسية تلامس وجدان المشاهدين. لكن مقدمة الجزء الأول غرقت في نص “شِعري” أقرب منه للمعالجة الواقعية، فبدا الهدف من الجزء الأول رواية سيرة “يوسف بيدس” لا سيرة بنك “إنترا”. في هذه المسألة، يمكن القول إن كاتب العمل وقع في نمط أعماله السابقة التي تناولت “بيوغرافيا” شخصيات سياسية، من دون أن تهتم كثيراً لشروط التوثيق العلمي.
النص نفسه اعتمد في العمل أسلوب الكتابة الصحافية لا الكتابة للصورة، في كلا الجزئين، وإن بدا أن بعض المشاهد متوافقة مع النص، إلا أنها وُضعت لاحقاً لسردية مقررة وإستنتاجات توصل إليها المُعدّ بنفسه، من دون أن يتضح لنا كمشاهدين كيفية الإستنتاج والمصادر المؤدية إليه.
يُشار إلى ان هذا النوع من التوثيق التاريخي يحتمل ظهور الراوي وتتبّع مسيرة بحثه عن “حقيقة” ما، لإضافة بُعدٍ أكثر حيوية للفيلم، لكن غانم فضّل البقاء خارج عدسة الكاميرا، رغم أنه حضر طوال الوقت في الاستنتاجات المباشرة التي، وإن صح الكثير منها، فكان يُفترض تقديمها من مصادرها الأصلية.
وفي حين تؤدي المقابلات دورها في بناء الحبكة، عبر استعراض مختلف وجهات النظر للرواية التاريخية، فإن مقابلات العمل جاءت في خدمة النص، لا متقدمة عليه.
وغاب عن العمل، الضيوف الأجانب المعنيون بصعود “إنترا” ثم سقوطه، فجاءت الرواية لبنانية بحتة، ووضعته في إطار “الغيرة” المصرفية المحلية من نجاحات البنك “الفلسطيني”. مع أنّ المواد الإعلامية، في الحدّ الأدنى، والتي واكبت هذه القضية في الخمسينيات والستينيات، تزخر بنظريات وأخبار عن تورط عابر للحدود ومصالح تتجاوز الإطار الإقتصادي والمالي.
أما في الجزء الثاني، فقد سيطر البُعد التقني الإقتصادي على طبيعة الشخصيات المستضافة في ظل غياب الشخصيات السياسية الشاهدة والمعنية آنذاك بحراك روجيه تمرز، والفصل الثاني من قصة بنك “انترا”.
فالمعالجة الإقتصادية السائدة في الجزء الثاني من العمل، أدت إلى طغيان نص الأرقام والنسب من دون وجود غرافيك داعم لحواس المشاهد، وبدت كثافة المعلومات التفصيلية هدفاً لا عاملاً توضيحياً. ونتيجة المعالجة المبنية على نص “مُتخم” وغير تلفزيوني، تم القفز فوق أحداث وإشارات لافتة، من دون الخوض فيها، كحادثة إختطاف تمرز، وخوف يوسف بيدس الدائم من الأمن، وغيرها.
من الملاحظات الفاقعة فنياً، استخدام أرشيف قديم من دون الإشارة إلى مصدره أثناء عرض لقطاته. (العديد من المشاهد الأرشيفية بالأبيض والأسود موجودة في قناة ابن يوسف بيدس في يوتيوب منذ سنوات).
ولم نستطع كمشاهدين قراءة مصادر العمل في جنريك العمل، بسبب سرعة مروره بشكل ملفت (تمت معالجة هذه المسألة في الجزء الثاني)، علماً أن التصميم الغرافيكي بشكل عام جاء فقير الهوية، ويناسب مادة خبرية لا وثائقية.
أما “نقلات” المونتاج Transitions بين المشاهد، فقد جاءت جامدة في ما يخص مقاطع الفيديو، في حين عانت النقلات بين الصور الأرشيفية (كالوثائق)، من فقدان الهوية البصرية الملائمة، فكثر إستخدام المؤثرات فيها من دون مسوّغ إخراجي مفهوم.
الرؤية الإخراجية للعمل غابت بدورها عن بناء فكرة تخدم العمل الوثائقي، فجاءت أقرب إلى معالجة تقرير خبري طويل، ولم نشاهد عناصر خاصة تميّز العمل، سواء في تقديم المقابلات أو في وجود عنصر إخراجي ترميزي مبتكر يخدم الرسالة والهدف ويجمع ما بين النص والمادة الأرشيفية.
يمكن التحدث مطولًا عن ثغرات فنية اخرى، لكن الهدف هو النقد البنّاء، مع الإعتراف الكامل بـ”شطارة” غانم وMTV في لفت أنظار المشاهدين في هذا التوقيت، بعرض هذا العمل وما سبقه الأسبوع الماضي من محاولة توثيقية لسيرة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير للمُعدّ إيلي أحوش. وهي بدورها تجربة غرقت في المعالجة الأحادية للمضمون، وسط غياب “الرأي الآخر” ومادة مشهدية مبنيّة على جمع الأرشيف، وليس لها بناء بصري يخدم فكرة إنتاج فيلم وثائقي.
علي شهاب – المدن