هل يضع التفتيش المركزي حداً للتوظيف العشوائي؟
في وقتٍ فوجئ اللبنانيون بفضيحة التوظيفات العشوائية المستمرة في الادارات والدوائر الرسمية، والتي تكبّد الدولة تكاليف باهظة تخطّت التوقّعات، وسط معلومات شبه رسمية تفيد بتوظيف أكثر من 1480 شخصاً خلال أقل من سنة، في تجاوز فاضح للقانون الذي يمنع التوظيف والتعاقد، تحرص هيئة التفتيش المركزي على إلزام الوزارات والادارات العامة والبلديات بايداعها خلال فترة أقصاها أسبوع، بيانات واضحة ودقيقة لجميع الوحدات الادارية المرتبطة بها، معتبرةً أن الإجابات ستكون بمثابة امتحان يحدّد إذا ما كنا في دولة القانون أم لا.
يمنع قانون سلسلة الرتب والرواتب الصادر عام 2017، في مادته الواحدة والعشرين، “التوظيف والتعاقد في القطاعين التعليمي والعسكري بمختلف مستوياته واختصاصاته وفي المشاريع المشتركة مع المنظمات الدولية المختلفة، إلا بقرار من مجلس الوزراء بناءً على تحقيق تجريه إدارة البحوث والتوجيه في مجلس الخدمة المدنية”.
غير أنّ هذه المادة لم تطبّق يوماً، بالتالي هناك عجز عن معرفة العدد الحقيقي للعاملين في القطاع العام. ما أدى ويؤدي الى الفشل في تقدير الكلفة الحقيقية للسلسلة، التي تم احتسابها على أساس أن عدد المستفيدين العاملين في القطاع العام في عام 2013– 2014 بلغ 165300 مستفيد توزّعوا على الشكل الآتي:
19266 في الملاك الاداري.
53139 في الهيئة التعليمية ومن بينهم 24653 متعاقداً.
93576 في السلك العسكري.
يضاف الى هؤلاء المستفيدين العاملين 80 ألف متقاعد، و27 ألفا يقال إنهم دخلوا الملاك الاداري في السنوات الماضية.
عليه، وبحسب التقديرات، قد تصل كلفة سلسلة الرتب والرواتب في العام 2019 الى ثلاثة آلاف مليار ليرة، بعدما كانت قد وصلت في العام 2015 أي قبل إقرارها، الى 1940 مليار ليرة، لتصل فعلياً في تشرين الأول من العام 2017 الى 2627 مليار ليرة، تتوزع على قسمين: 851 مليار ليرة غلاء معيشة، و1776 مليار ليرة تعديل سلاسل الرواتب.
أما بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب في العام 2018، فيُرجّح أن يكون مجموع الموظفين والمتعاقدين الذين تم إدخالهم بشكل مخالف للقانون نحو 1480. إذ أُدخل الى الوزارات 824 بين موظف ومتعاقد، و656 الى المؤسسات العامة. مع العلم أن 480 ممّن أدخلوا الوزارات و210 المؤسسات، يتقاضون رواتبهم منذ أن نجحوا في امتحانات مجلس الخدمة المدنية، أي منذ أكثر من سنتين و10 أشهر، رغم أنهم لا يزالون في منازلهم بانتظار مراسيم تعيينهم وتوظيفهم. وبحسب المعلومات، فإنّ مجموع الرّواتب التي صرفت حتى الآن، يفوق 4 ملايين و800 ألف دولار.
إلا أنّ هذه الأرقام ليست نهائية، بل هي الأرقام المتوافرة لدى مجلس الخدمة المدنية، ويبقى ما هو موجود لدى التفتيش المركزي، الذي تؤكد مصادره لـ”المدن” أنه لن يتساهل أبداً مع المتخلّفين، بل سيسمّيهم ويحاسب بعضهم، على أن يتكفل المجلس النيابي بمحاسبة الآخرين. ولفتت الى أن العديد من الوزارات والمؤسسات أجابت على طلبها، وعددها 45 وزارة وادارة عامة حتى ظهر الاثنين، فيما وعدت إدارات أخرى بإرسال ردودها قريباً. أما بالنسبة الى البلديات، فقلة منها أجابت حتى الآن، فيما بلديات أخرى تأخر وصول التعاميم إليها. هذا فضلاً عن الافادة عن تعاقد جرى مع كل من هذه الوحدات، مهما كان شكله، من شهر آب 2017 ولغاية تاريخه. إضافة الى ذلك، تمت مخاطبتها عبر وزارة الداخلية والبلديات من خلال مديرية المجالس المحلية ومن ثم المحافظين.
في هذا الإطار، يشدّد رئيس مؤسسة لابورا الأب طوني خضرا، في حديث لـ”المدن”، على أنّ “المشكلة تكمن في النظام الحالي الذي لا يمكن أن يستمر في دولة ترزح تحت أعباء مليارات الدين وانتفاخ القطاع العام”، منتقداً “غياب الرقابة على التزام الموظفين وغياب الرقابة على الانتاجية، وعدم إقرار آليات واضحة ومشدّدة لمعاقبة المتنفّذين، وأصحاب المصالح الشخصية، والراغبين في التنفيع من وراء مكتسبات الدولة اللبنانية التي هي ملك عام للشعب اللبناني”.
وكشف خضرا أنه يضاف الى رواتب موظفي الدولة التي تُلامس 10 مليار و400 مليون دولار سنوياً، مبلغ 3 مليارات و600 مليون دولار كتعويضات وحوافز للموظّفين ليصل المجموع إلى حدود 14 مليار دولار، إضافة إلى 7 مليارات دولار كموازنات للمؤسّسات التي تقدّمها الدولة كالجامعة اللبنانيّة ووزارتي الصحة والزراعة وغيرها. بالتالي، فإنّ الشعب اللبناني يدفع 20 مليار دولار للدولة سنويّاً”، مشيراً إلى “بلوغ عدد موظّفي الدولة 400 ألف موظّف ومئة ألف متقاعد ونحو مئة ألف شخص في السّلك العسكري ونحو مئتي ألف في السلك المدنيّ”.
أسباب عدّة وراء هذه الفضيحة المالية، وأولها، بحسب ما تفيد مصادر مطّلعة “المدن”، هو لجوء بعض المؤسسات الى التعاقد من دون إرسال حاجتها الوظيفية الى إدارة الإبحاث والتوجيه، لإجراء دراسة دقيقة عن العدد الحقيقي الذي تحتاج إليه المؤسسة العامة. والسبب الثاني هو ببعضٍ آخر من المؤسسات كـ “أوجيرو” على سبيل المثال لا الحصر، الذي يتعاقد من دون مراجعة أي جهة رسمية. أما السبب الثالث والأفظع، فهو عدم التزام الحكومة الحالية قانون السلسلة الذي اشترط عليها إنجاز مسح شامل يُبيّن الوظائف الملحوظة في الملاكات والوظائف التي تحتاج إليها الادارات للقيام بالمهام الموكلة إليها، وتحديد أعداد الموظفين والمتعاقدين والعاملين فيها بأي صفة كانت، وتحديد الحاجات والفائض والكلفة الحالية والمستقبلية. وكل ذلك، عبر تكليف مجلس الوزراء هيئة من القطاعين العام والخاص، إنجاز المهمة في مهلة لا تتجاوز ستة أشهر، على أن تقدم نسخة عن نتيجة المسح الى مجلس النواب.
وترى المصادر أنّ “النقطة الأساس في هذا التقرير، هي أنه يضع الوزارات والادارات أمام واقع قانوني لا يمكن لأحد أن يتجاوزه. عليه، سيتم كشف كل المخالفات أياً كانت وعن أي جهة صدرت. بل سيُصار الى تخصيص جلسة لهذا الغرض ستشمل كل الوزارات والادارات المعنية بالتجاوزات وغير التجاوزات، وسيصار إلى التحدث عنها بالعلن وبالأرقام. بالتالي، لن يكون أمام الحكومة المقبلة من خيار سوى احترام قرار المجلس النيابي بعدم إجراء أي تعاقد وأي توظيف خارج الأطر القانونية”.
بين آب 2017، تاريخ صدور قانون السلسلة، وأيار 2018، تاريخ دخول الحكومة مرحلة تصريف الأعمال، تسعة أشهر مرّت من دون أن تكلّف الحكومة أي جهة من القطاعين العام والخاص، بإجراء هذا المسح، ولعلّ ضلوع الأفرقاء السياسيين بهذا التوظيف العشوائي يجزم بأنها لم ولن تفكر يوماً في إجراء خطوة إصلاحية كهذه، بينما تتطلّب المعالجة تطبيقاً فعلياً لوقف التوظيف وخفض عدد العاملين في دوائر وإدارات الدولة. فهل ستبدأ المحاسبة الفعلية؟
باسكال بطرس – المدن