الإسرائيلي يوفال هرري.. يفقد عقلانيته عند سؤاله عن فلسطين
لكن ما معنى أن تكون مؤرخًا إسرائيليا، وحاصلا على دكتوراه في التاريخ وتُدرِسه في الجامعة العبرية بإسرائيل وتعيش في تل أبيب وتؤلف كتبا تسجل مبيعات عالمية قياسية، وعندما يتعلق الأمر برأيك في العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في غزة والاحتلال وحق الشعب الفلسطيني عموماً، تزعم أنك لست خبيرا في اسرائيل؟!
ما معنى أن توصف بـ “أهم مفكر في العالم حاليا” تستعرض عضلاتك التنظيرية والمعرفية، وتعطي الدروس، لكن عندما يتعلق بما يعانيه الفلسطينيون تذهب إلى تشبيهات سطحية غير دقيقة، بل سخيفة ومثيرة للسخرية، حيث شبَّه هراري في حوار مع مجلة “أتلانتيك” ما يحدث بين الضحية الفلسطينية وجلادها الإسرائيلي بلعبة “بوكيمون”، حيث يحاول كل منهما اصطياد الآخر، والحقيقة أن الفلسطيني هو الضحية، التي يتلذذ الصهيوني في قتلها بسادية مثلما يقوم بذلك جنود الاحتلال.
يؤمن أن الله وعد اليهود بفلسطين!
ما معنى أن تقدم نفسك كمعارض لـ “قانون القومية” الإسرائيلي، الذي يؤكد على يهودية إسرائيل، ولكن لا تنتقد بشكل صريح عنصريته، وتوقع بيانا مع مثقفين إسرائيليين علمانيين وملحدين مثلك، لكنكم تؤكدون في بيانكم على أن “فلسطين هي الوطن التاريخي لليهود” أي أنها تأكيد آخر على المفارقة العجيبة والنفاق الموصوف لهؤلاء الصهاينة “الذين لا يؤمنون بالله، لكنهم يؤمنون بأن الله وعدهم بفلسطين”، مثلما سخر يوما المؤرخ الإسرائيلي المعارض والناقد الصريح للسياسية العنصرية والإجرامية لإسرائيل.
عندما حاور “جون ريد” مدير مكتب صحيفة “الفايناشل تايمز” في القدس المحتلة، هراري بدا له “مدهشا” في “تنظيراته” عن الإنسان وتاريخه، لكن لما سأله عن العدوان الإسرائيلي في غزة، إجاباته لم تكن بذلك العمق، “الذي تمناه من مثقف إسرائيلي”، و”أن أقل ما يقال إنه شعر بأنه خذله” بإجاباته. هاراري المثلي، ذهب “في تهربه” من الأسئلة المتعلقة بغزة والصراع الفلسطيني الاسرائيلي، الى القول إن “مثليته مثل عدم خبرته في الشأن الإسرائيلي”!، حيث قال: “مثل إسرائيل، فأنا جزء منها (مثليته)، ولكنني لست خبيرا فيها”!
هراري، الذي قال إنه ليس خبيرا في الحرب، لم يتوان في استعراض “عضلاته التنظيرية” عندما تعلق الأمر بالنزاع الروسي ـ الأوكراني، واعتبر أن ما شد انتباهه هو أنه كيف أصبح الروس أكثر حرصًا، وأقل عدوانية وميلاً للحرب مقارنة بمواقف مماثلة في التاريخ، مع أن القصف الهمجي الممنهج الروسي في سوريا يقول العكس. وفي كتابه “يُنظر” المؤرخ الإسرائيلي بأن الإقتصاد العالمي أصبح مبنيا على المعرفة وبالتالي تجاوز الحروب “المادية” التقليدية.
صحافي “االفاينانشل تايمز”، وفيما يشبه “التوريط الذكي” للمؤرخ الإسرائيلي، يسأله “ماذا عن إسرائيل نفسها، “أمة ستارت آب” التي تعتمد اقتصادها على المعرفة، والتي يزعم أنها تجاوزت الحروب”؟!
هراري يتفق مع محاورٍه، ولكنه يحاول إيجاد تبريرات بالقول إن “إسرائيل في طليعة التقدم التكنولوجي، ولكنها توجد في منطقة الشرق الأوسط، التي تأخذ اتجاها مغايرا مما يخلق كل أنواع الضغوط والصعوبات. والسؤال الرئيس هو مدى قدرة إسرائيل على الحفاظ على مكانتها في هذا المسار التاريخي”.
تهافت ومغالطات
هراري يذهب أبعد، في تبريراته و”مغالطاته” حتى، بالقول: “إن الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني يحتوي على الكثير من الأمور الشاذة”، وذكر هنا أولا ما أسماه “حقيقة أن اسرائيل غير معترف بها من قبل جيرانها”.. فهل هذا صحيح مائة بالمائة ليرقى ان يسمى “حقيقة”، أليس لإسرائيل علاقات وتتبادل السفراء مع دولتين جارتين على الأقل مصر والأردن، وألم يعبر العرب عن استعدادهم للاعتراف بإسرائيل إذا قبلت بحدود 1967 وبقرار التقسيم للأمم المتحدة وقبولهم بحل الدولتين، وعمليا بـ 22 بالمائة فقط من أراضي فلسطين التاريخية؟!
المؤرخ الإسرائيلي لا يسمي الأشياء بمسمياتها ففيما يشبه “متلازمة فلسطين”، التي تصيب الإسرائيليين من الصهيوني اليميني المتطرف الى “حمائم اليسار الإسرائيلي”، يذكر أيضا ما أسماه حقيقة “افتقار الأراضي الفلسطينية للسيادة”، ولا يذكر هنا أن الحقيقة تقتضي تسميتها “الأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل إسرائيل”، والتي مازال الاحتلال الصهيوني يواصل اغتصاب أجزاء منها بشكل مستمر!.
هراري أيضا يذكر حقيقة “الوضع الدائم” للفلسطينيين كلاجئين، ولا يدين ذلك ولا يقر مثلا بأن إسرائيل ترفض الاعتراف بحقهم في العودة إلى أراضيهم، وأراضي أجدادهم، بينما يحق ليهودي من أي دولة في العالم، أن يستقر بين عشية وضحاها في الكيان الصهيوني!
المؤرخ والمنظر الإسرائيلي، الذي “يُنظّرُ” كثيرا في كتابه، يقول “إن المشكلة الرئيسية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي ليس “نقص الحلول النظرية، فهناك الكثير منها، ولكن المشكلة في قبولها من قبل الطرفين”. وهذا الرأي من “مُنظر” لا يمكن اعتباره إلا إنكارا للحقيقة، فالواقع أن إسرائيل هي من لا تريد حلولاً، فيما قدم الفلسطينيون والعرب تنازلات كبيرة.
اللافت أن “المُنظر” الإسرائيلي النباتي، الذي يرفض أكل اللحوم عن مبدأ “تضامنا” مع البقر والدجاج ضحية “وحشية الإنسان العاقل” ويرى في كتابه أن “ثورة الزراعة في تاريخ البشرية كانت كارثة” وأنها من “وجهة نظر الدجاج أو البقر كانت خطأ كبيرًا”، لا يرى وجاهة في إسقاط هذا “البراديغم” التاريخي على “ابن عمه”، ولنقل على الأقل مثيله الإنسان الفلسطيني، ولا يرى من وجهة نظره (أي الفلسطيني) كما كانت كارثية نكبته، بإنشاء بقوة السلاح والإرهاب دولة الكيان الصهيوني.
جمال الدين طالب : *كاتب جزائري مقيم في لندن