“دار الصياد”.. في انتظار المشهد الأخير

احمد الزعبي

تتحضر دار الصياد لطي آخر صفحاتها يوم الاثنين المقبل، منهية بذلك مسيرة طويلة من العمل الصحافي العريق والملتزم القضايا الوطنية والقومية تتخطى 75 عاماً، واكبت وواجهت في خلالها أهم وأصعب المراحل الوطنية، بدءاً من الاستقلال عام 1943، مروراً بكبريات الأحداث العربية والعالمية وصولاً إلى زمن الأزمات التي تفوق في تداعياها كل أهوال الحروب.
الحدثُ ليس تفصيلاً، وما يحصل مع “الصياد”، وقبلها مع وسائل إعلام مقروءة أخرى، يعكس أزمة الصحافة ككل، بوصفها مؤشراً لوعي الشعوب وعلامة على تفاعلهم مع القضايا الكبرى ومعياراً لثقافتهم وحيويتهم، ويطرح فوق ذلك أسئلة مصيرية عن مستقبل المهنة، ومعها مستقبل الوعي وصناعة الرأي العام، وأيضاً مستقبل لبنان الذي عرف تاريخياً بصحافته الحرّة وصحافييه المتميزين.
دار الصياد، تغلق أبوابها بعد ثلاثة أرباع قرن من تأسيسها على يد سعيد فريحة(1912 – 1978)، وتوقف إصداراتها المتنوعة، السياسية والاقتصادية والفنية والاجتماعية. إنها خسارة كبيرة لصفحة مشرقة من الصحافة المتميزة التي انطلقت على يد رجل عصامي ونمت وتوسعت مع أبنائه من بعده، وواكبت لبنانمنذ لحظة الاستقلال، وقد حملت لواءه في الثورة على الانتداب، وقدمت أجمل المنشورات والمطبوعات التي واكبت أزمنتها وكانت في معظم الأحيان ممراً ضرورياً لأي طامح لدخول العمل الصحافي، “الصياد” (1943)، “الشبكة” (1956)، “الأنوار” (1959)، “الدفاع العربي” (1975)، “فيروز” (1980)، “الكومبيوتر والالكترونيات” (1984)، و”الفارس” (1985)، وكل ذلك شكّل، على اختلاف العهود والفترات من تاريخ لبنان الحديث، مرحلة مهمة وجزءاً أساسياً من المشهد الإعلامي والسياسي والثقافي والفكري والفني لهذا البلد، وكتب صفحات مشرقة في السجل الذهبي للصحافة اللبنانية والعربية، والذاكرة الوطنية ككل.
يمكن الحديث عن أزمة صحافة، ورقية ومرئية، تتعلق بأسباب اقتصادية ومالية وإعلانية، وعن عصر جديد من الإعلام الرقمي والالكتروني بات يتصدر المشهد لأكثر من اعتبارٍ وسببٍ، وراحَ يهددُ عرش السلطة الرابعة، لكن كل ذلك لا يلغي من أهمية التفكير في الخروج من أزمة ذات شقين تهدد الصحافة والإعلام وتضعه أمام المجهول: الأول الاختفاء والانكفاء التدريجي للصحافة المكتوبة شيئاً فشيئاً عن المشهد الإعلامي اللبناني، كجريدة السفير (2016) والاتحاد (2017) وخروج “الحياة” من بيروت (2018)، وقبلهم البيرق والكفاح العربي والآن الأنوار، والتعثرات المالية التي تضرب صحفاً أخرى وتؤثر على حياة العاملين فيها، والشق الثاني: تكاثر ظواهر التهريج والعري والنميمة والخفّة والتسطيح والافتراء التي تسمى زوراً إعلاماً، وتملأ الشاشات ملوثة عقول المشاهدين من دون استئذان بعبقريات “المحللين” و”الخبراء” والعرافين والدجالين. إن التفكير في هذه الأزمات لا يساهم في تحديد الخلل الحاصل فحسب، بل يستشرف آفاقاً للحلول وولادة لشكل جديد من الصحافة الحرة، الحارسة للحقيقة، والحاملة لهموم المجتمع، والراعية لفكره ومفكريه بعيداً عن الاستبداد والابتزاز والتسطيح. 
“الصياد”، مؤسسات ومطبوعات وتاريخ ومدرسة صحافية، وهي التي اتخذت من هذه المهنة مساراً لمقاربة القضايا الوطنية والقومية، واجهت أعتى الصعوبات في خلال الحرب الأهلية، وصمدت أمام قصف المتحاربين الداخليين، والاحتلال الاسرائيلي، والاستهداف المتكرر والتضييق والملاحقات، ودفعت أثماناً باهظة نتيجة لذلك.. لكن أزمة الصحافة كانت أقوى من كل هؤلاء، وها هي اليوم ترغم الدار العريقة على إقفال أبوابها، وفتح باب المجهول.. بانتظار ما سيحمله المشهد الأخير للمهنة والعاملين فيها والمؤمنين بها.  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى