تحية من النبطية إلى الأديب الراحل جواد صيداوي
وسط حشد من معلمي ومثقفي النبطية والجوار، عقد المجلس الثقافي للبنان الجنوبي وجمعية التنمية للإنسان والبيئة وجمعية بيت المصوّر في لبنان لقاء “تحية إلى الروائي الأديب جواد صيداوي” تحدث فيه القاضي المتقاعد سعيد سكاف والكاتب الدكتور عبد المجيد زراقط والدكتور محمد فران، وتخلله توزيع نسخ من بعض روايات صيداوي (جمانة، أجنحة التيه: الإقلاع 2 وتونس، العودة على متن الرحيل، الطغاة في التاريخ) مقدمة من نجله حيّان وعائلته في النبطية، وثلاث بطاقات بريدية إحداها بورتريه رسم مائي، بريشة الفنانة خولة الطفيلي، والثانية للـ”الثلة الحمراء” في النبطية بينهم جواد صيداوي في رحلة عام 1964 إلى نبع الطاسة، والثالثة له ولأصدقائه في النبطية، منهم سعيد سكاف وعادل صباح (1953).
فرّان: ترك في طلابه بصمات دهرية لا تزول
ترحيب من رئيس فرع المجلس الثقافي للبنان الجنوبي في النبطية الإعلامي كامل جابر، ث تحدث الدكتور فران، فقال: “يحار المرء ماذا يقول في حضرة رجل عظيم تعملق على أكتاف المجد، فعانق النجوم عطاء لا يُبارى، وصفاء تسامت فيه نفسه إلى مصافي العظماء، وطموحاً تاق فيه إلى مصافحة النسور في مواكب النسور، وشجاعة جعلت من قلبه الخفّاق درعاً واقياً لمصاولة الظالمين، وإبداعاً فنياً خالصاً حاكى به مآثر الخالدين على امتداد الدهر”.
وأضاف: “عرفت الجواد أول عهدي باستلهام معاني الفكر القويم وشعارات الحرية إذ أنه كان خطيباً مصقعاً من خطباء الثورة دفاعاً عن حركات التحرر العربية في المغرب العربي ضد طواغيت الاستعمار، وعرفته أول عهدي بالمطالعة، عبر قراءات أولى، تعود إلى أواخر الخمسينات من القرن الماضي، ومن خلال المنشورات الدورية كمجلة “الثقافة الوطنية” ومجلة “الطريق” وجريدة “الأخبار”، فوجدت فيه شاعراً صادق الشاعرية، أهاضت جناحيه لواعج الحنين، أثناء غربته القسرية إلى الشمال الأفريقي، فهفت نفسه إلى أن يرسم، وبالكلام، صوراً وجدانية موّارة تنبض بكل معاني الحياة السامية.
عرفت جواد الصيداوي، مع مطلع الستينات، من القرن الفائب نفسه، مديراً لثانوية الصباح الرسمية، وكنت في عداد الفوج الأول من طلابها، فخرّج منها، بفعل دربته، وكمال درايته، وبعد نظره، وصدق عزيمته، رجالاً يباهون الزمان مجداً وفخارا، وقد ترك في طلابه بصمات دهرية لا تزول؛ كما عرفت فيه مربياً جليلاً جند كل قدراته لأن يغرس في نفوس الناشئين من أبناء الوطن، القدرة على مواكبة معاني الحياة الطيبة بشوق ورقة، ليكونوا كالنسور القشاعم الذين لا تستطيع الشمس أن تبهر عيونهم بالنور.
وعرفته أخيراً وليس آخراً، كاتباً روائياً فذاً تنضح رواياته بالصدق والعفوية والموضوعية، مع نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة، يترصد آمال الناس وآلامهم، دافعاً بهم إلى التصبّر على ما هو قائم، وحسن التخطيط إلى ما ينبغي أن يكون”.
زراقط: كان يرى إلى الحياة من منظور إنسان
وتحت عنوان “جواد صيداوي: عطاءً ثرياً بالجنى” تناول الدكتور عبد المجيد زراقط بعض سيرة الرجل “كقاص جواد صيداوي قاصٌّ وروائي وكاتب مقالة ومترجم ومربٍّ وإداريٍّ ناجح” (ننشرها كاملة لأهميتها الثقافية والتحليلية). وقال: أكتب عن جواد صيداوي أديباً وصديقاً عزيزاً آلمني رحيله.
أكتب عنه، وأراه إلى جانبي يبتسم كعادته. وكما عهدته، يمجُّ أنفاساً من «سيجارته»، وينفثها، فتتشكَّل حلقات الدُّخان، يتابعها، و«يفقع» ضحكته، ويشير إلى «سيجارته» التي توهّج رأسها، ويقول: «فاتتك هذه النِّعمة»، وقبل أن أجيب، يضيف: «يا صاحبي، ما قصَّر في العمر دخَّانٌ ولا سهر…». ثم ينحني، ويهمس لي: «ها أنت تكتب عمَّا بقي من جواد صيداوي…، هوذا ما بقي، ويبقى. هو الأدب كنت أحلِّي به الوجود، فيغدو محتملاً، وممتعاً، وها هو، بعد الموت يبقي ويُبقى. أكتب، يا صاحبي، بموضوعية، كما عرفتك، ولن أعاتبك، إن لم أتفق معك، كما لم أعاتب يوماً أحداً على ما كتبه عنِّي، وعن مؤلَّفاتي».
أكتب عن جواد صيداوي روائياً صديقاً، وبي أسىً لرحيله، ولآنسُ بعالمه الرِّوائي، ولأقدِّم معرفةً نقدية بنماذج من رواياته هي: «العودة على متن الرَّحيل»، و«أجنحة التِّيه»، و«صرنا على الليسته»، «وفساتين هندومة»، فعسى أن يكون، في هذا الصَّنيع، ما يفيه حقَّه، وما يقدِّم ضوءاً لقرَّاء آتين يسعون إلى معرفة روَّاد كتبوا، وأثمرت كتاباتهم عطاءً ثريَّاً بالجنى.
في «العودة على متن الرَّحيل»، نلحظ لعبة القدر وعبثيَّته، فـ«أحمد شمران»، الشخصيَّة الرئيسية من الرِّواية، يقرِّر العودة إلى وطنه. وفي وعيه ولا وعيه «حلمٌ» بتنمية هذا الوطن والنهوض به، فيمتطي متن طائرة لتقلَّه إلى حيث يحقِّق حلمه، لكن القدر يلعب لعبته، فتسقط الطَّائرة، ويموت المغترب، وهو في طريق العودة على متن الطَّائرة المفترض أن تعود به إلى وطنه ليحقِّق حلمه، فيموت الحلم، ما يثير سؤالاً مفاده: هل هذا هو قدر اللبناني أن يخرج من «المكان الطَّارد»؛ حيث يفقد المكان الذي يحقِّق فيه ذاته، فيهاجر بحثاً عن هذا المكان في بلاد الاغتراب، وإذ ينجح، ويعود ليحقق حلمه يموت بـ«لعبة القدر»، وتتكشف عبثيَّته؟ ويثار هنا سؤال آخر: هل يريد صيداوي أن يقول: هوذا عبث الحياة؟ وهل كان قوله هذا باعث البسمة السَّاخرة التي كانت تطلُّ على شفته كلما احتدم الزُّحام من أجل شأن من شؤون هذه الحياة؟
في «أجنحة التِّيه»، وهي ثلاثية تتألَّف من «الوكر» و«الإقلاع و«تونس»، تتمثل إشكاليَّة التحوُّل بالسِّيرة الذاتيَّة إلى رواية؟ ويُطرح السؤال: هل هي سيرة ذاتيَّة، أو رواية ثلاثيَّة، أو سيرة ذاتية تتخذ بنية روائية؟
تفيد قراءة هذه الثلاثية أنها تتَّصف بالميزة الأساس للرِّواية، وهي أنَّها تصدر عن منظور يرى إلى وقائع السيرة الذاتية، بوصفها مادَّة أوليَّة، ويختار منها، وينظم ما يختاره، لينطق برؤيته إلى عالمه، والسؤال الذي يثار هنا هو: ما هو هذا المنظور الذي رأى منه صيداوي إلى عالمه؟ يكشف عنوان الثلاثية، وهو: «أجنحة التيه»، عن تجربة تتصف بالتغيُّر السريع سرعة الطَّائر في طيرانه: «أجنحة»، وهو تغيُّر يفضي إلى ضياع: «التيه».
تفيد قراءة هذه الثلاثية أنها تروي قصَّة التغيُّر السريع الذي عاشه جيلٌ عاملي، ولد في الرّبع الأوَّل من القرن العشرين، حيث تشكَّلت الدُّول التابعة مركزاً عالمياً تحكَّم بمسار نشوئها ونموّها وتطوّرها، وكان همّ هذا الجيل الأساس مناهضة هذا التحكُّم، والسَّعي إلى تحقيق التحرُّر والنموُّ الوطنيَّين، وفي سياق هذا السَّعي تبرز دلالة «التِّيه المجنَّح»، وقد اتخذ صيداوي من وقائع من سيرته الذاتية مادة أوَّلية لثلاثية روائية تروي سيرة هذا الجيل الساعي إلى التحرُّر والتنمية الوطنيَّين، والذي كان أحد أبنائه الفاعلين على غير مستوى، والواضح أن هذا الجيل واجه قدراً متحكِّماً، فحاول أن يصنع قدره، وقد تمثلت سيرة هذا الصنيع في نصٍّ قصصي تمليه انتقائية الذاكرة، ويؤدِّيه الراوي العليم، بلغة تتنوَّع بين التقريرية والشعريَّة، ولا تخلو من تأثير لغة البحث والمقالة.
في «صرنا على الليسته»، توافرت مادَّة روائية تتمثل فيها قضيَّة إنسانية كبرى وخالدة، وهي قضيَّة مواجهة الإنسان للعجز والموت، فالمادة الرِّوائية الأولى وقائعية معيشة، فصديقه الأوَّل السيِّد بديع (بهيج أبو خدود) هو الذي مات، وصديقه الثاني عادل حمود (عبدالحسين حامد) هو من همس في أذنه عندما أُنزل جثمان الميت إلى القبر: «صرنا عالليسته»…
يقتضي تحويل المادة السيرية إلى رواية أن يتصل الكاتب بهذه المادة، وأن ينفصل عنها في آن، يتصل بها ليعرفها وينتقي منها من منظوره، وينفصل عنها ليقيم منها، ومن منظوره، أيضاً، بناء متخيَّلاً ينطق برؤيةٍ إلى القضية الإنسانية التي تثيرها.
يبدو واضحاً أن الفضاء الروائي لـ«صرنا عالليسته» هو: إن الموت هو قدر الإنسان، وهو هاوية يبحث الإنسان عن منقذٍ ومَنْفَذٍ منها في آن، الإيمان بالله تعالى، كما يقول نجيب محفوظ ينقذ من العبث في الدُّنيا ومن الفناء في الآخرة، والسؤال الذي يطرح هنا: ما المَنْفَذ المفضي إلى جعل هذا القدر/ الهاوية محتملاً، وممتعاً!؟
تفيد قراءة الرِّواية أن المَنْفَذ يتمثل في أشياء منها: الحبُّ، الكتابة، السَّعي إلى جعل العيش مريحاً وسعيداً، ولعل هذا ما يفسِّر غزارة إنتاج جواد صيداوي الروائي في مرحلةٍ من العمر شعر فيها بأن عليه أن يشغل نفسه عن «مهزلة الوجود»، كما سمَّاها، وأن يعطي ما يجعله يعبر إلى البقاء، من طريق الأدب الذي يقهر الزَّمن والموت اللذين يقهران الإنسان.
في «فساتين هندومة» نقرأ حكايات أناس تضمَّنتهم، كما جاء في هذه الرواية، «لائحة مساطيل طبرنا»، هل «طبرنا» هي النبطيَّة، فتكون المادة الأولية لهذه الرِّواية هي سيرة هذه المدينة في مرحلة من الزَّمن؟ وهل يصحُّ أن نقول: إن هذه المدينة: «طبرنا» ترمز إلى الوطن؟
حكايات «مساطيل طبرنا» تُتَّخذ مادَّة تندُّر، وقد انتظمت مادة التندُّر هذه في مسار روائي قوامه أخبار أناسٍ غير سويِّين، ما يعيد إلى الأذهان كتب القصص التراثية العربيَّة. وإن كان من إشكالية، هنا، فهي إشكالية التحوُّل بهذه المادَّة، من التندُّر، إلى مبنى روائي تشكِّله رؤية تتمثل الواقع وتمثِّله في شكل يفيد كاتبه، واعياً أو لا واعياً، من التراثين القصصيَّين: القديم والحديث.
إن رواية «فساتين هندومة» رواية تتشكل من منظور يرى عبث الوجود وركود العالم العربي، وتشوُّه أناسه، وتتالي هزائمه، ويرى في الوقت نفسه، أنَّ هدهداً يولد، وقد يأتي بالبشارة. ويبدو واضحاً أن هذه الرِّواية تتخذ بنية روائية تتأثر بتراث التندُّر العربي، فتمثِّل تجريباً يفيد من أشكال تراثية في بناء رواية حديثة.
تفيد هذه القراءة السريعة، في نماذج من روايات جواد صيداوي، أنَّه كان يرى إلى الحياة من منظور إنسان يسعى إلى أن يكون هذا الوجود ذا جدوى، وأن يكون قدر الإنسان فيه محتملاً وممتعاً، فاتخذ من وقائع الحياة المعيشة، وخصوصاً من سيرته وسير شخصيات ومدن يعرفها، مادة روائية أولى تمثِّل قضايا وجودية وإنسانية كبرى، وواجه إشكالية تحويل هذه المادة السيرية إلى روايات، مستفيداً من التراثين القصصيين: القديم والحديث، فوُفِّق إلى ذلك، ويبدو جليًّا أنه سعى إلى أن يحلِّي «مهزلة الوجود» المرَّة، ويجعلها محتملة، وممتعة في حالات الإبداع الأدبي الذي أتاح له أن يقهر المرارة والعجز والزَّمن.
سكاف: زرع العلم والوطنية والقيم في عقول طلابه وعارفيه وقرائه
وفيما لم يقدر على منع نفسه من البكاء والدموع على رفيق عمره جواد صيداوي، قال القاضي المتقاعد سعيد سكاف: (ننشر النص كاملاً لأهميته التوثيقية وعلاقته بالذاكرة الفردية والجماعية):
1- بدء تعرفي بالمرحوم جواد
تعود معرفتي بالفقيد الذي نكرم ذكراه اليوم إلى أواخر ثلاثينات القرن الماضي، إذ استأجر المرحوم والدي، في حي البياض، منزلاً مجاوراً لمنزل ذوي المرحوم حبيب جابر ونسيبه المرحوم جواد.
وصدف أن كنت من عمر المرحوم حبيب، وكان المرحوم جواد يصغرنا بسنتين تقريباً، وارتدنا مع أولاد الحي الآخرين ما دعي لاحقاً بـ”أم المدارس” والتي كانت المدرسة الرسمية الوحيدة في البلدة وبإدارة المربي الكبير المرحوم عبد اللطيف فياض.
وعلى مرّ الأيام والسنين، نمت الصداقة في ما بيننا وامتدت إلى أهلنا، وكان المرحوم جواد أكثر الصبية وداعة وتهذيباً وأقلنا شيطنة، وكان يطلب مني أحياناً، بلطف وخجل شديدين، مساعدته في بعض دروسه باللغة الفرنسية وعلم الحساب.
2- مضمارنا المشترك
ومن جميل الصدف أن مضمارنا الدراسي والفكري وحتى السكني كان واحداً، وكما نلت الشهادتين الابتدائية والتكميلية في النبطية والتحقت بدار المعلمين الابتدائية الوحيدة في بيروت آنذاك، ونجحت فيها وفي امتحان القسم الأول من البكالوريا التي درستها على نفسي بدون مساعدة أي أستاذ. هكذا فعل صديقي جواد. وكما زاولت التعليم في تكميلية النبطية، عدت والتقيته بعد سنوات حيث شاركني التعليم في ذات المدرسة. كما تابعنا سوية الدراسة على أنفسنا في ما بعد والنجاح أيضاً في امتحانات القسم الثاني من البكالوريا.
3- إقامتنا المشتركة في بيروت
بعد نجاحنا هذا، انتقلنا إلى بيروت حيث أقمنا، لأربع سنوات مستمرة، تحت سقف واحد مع أصدقاء مشتركين. كان منزلنا خلالها فندقاً ومطعماً مشتركاً لنا ولأحبتنا ومقراً لاجتماعات وندوات فكرية حيث كان المرحوم جواد نجم تلك اللقاءات ويضفي عليها المرح والكثير من دعاباته اللطيفة.
بعد انتهاء دراستنا الجامعية انفصلنا لضرورات العمل والعيش المستقل. وإذ، وبعد حوالي السنة، وكنت قد تزوجت، بحضور الأديب الكبير المرحوم حسين مروه الذي فاجأني بزيارته وبرفقته كل من الصديقين المرحومين جواد وأحمد علبي وطلب مني المرحوم حسين كتابة مقال علمي في أي موضوع اختاره لنشره في مجلة “الثقافة الوطنية” التي كانت بإشرافه في حينه. فاستجبت لطلبه وسلمت المقال للمرحوم جواد الذي قام بتنقيحه لغوياً – لضعفي في العربية – وجرى نشره بعنوان “على تخوم الحياة” وبتوقيع مستعار، باسم “ابن طفيل” ليتناسب مع الموضوع وحصل ذلك عام 1958 على ما أظن.
4- في الانفصال
بعدها انقطع التواصل بيننا لأكثر من نصف قرن، إذ كان قد سافر للتدريس في تونس، ثم وبسبب الفتنة الداخلية، علمت لاحقاً، أنه تنقل للعمل في ثانويات عدة، وبأنه سافر بعدها للعمل والاستقرار وعائلته في فرنسا.
5- عودة اللقاء
ذات يوم، من العام 2006، أي بعد نصف قرن من الفراق، وكنت أتقبل التعازي بوفاة نسيبي الأديب المرحوم عصام محفوظ في بيروت، وإذ بي أفاجأ بحضور الصديقين الشيخ الحبيب حبيب صادق، والأخ كريم مروه أطال الله عمرهما، يرافقهما عزيزنا جواد للتعزية. ليس باستطاعتي إلى اليوم وصف وقع تلك المفاجأة وذلك اللقاء، إلاّ بترداد بيت شعر للمتنبي يقول فيه:
فافترقنا حولاً: فلمّا التقينا
كان تسليمه علي وداعاً
6- في فكر أبي حيان السياسي
في أواخر أربعينات القرن الماضي، أثر انتصار الاتحاد السوفياتي على النازية، اعتنقنا: المرحوم جواد وأنا والعديد من الطلاب والمعلمين والأصدقاء الأفكار اليسارية التي استهوتنا بجمال شعاراتها التي تنادي بالمساواة والمحبة والإنسانية.
وإليكم ما سطره فقيدنا في كتابه أجنحة التيه …. من شعارات مثل: الإنسان أثمن رأسمال في العالم، (قول لستالين)
“مدرسة لكل تلميذ وكتاب لكل قارئ”
“محراث وحقل لكل فلاح وعملٌ ومصنعٌ لكل عامل”
“مشفى لكل مريض”
“زهرة لكل عاشق”
وأظن أن هذا الشعار الأخير اللطيف هو من إبداع الحبيب جواد.
ويلاحظ من كتبه بأن وعيه السياسي جعله يلتفت إلى كل ما يسمى مشاكل العرب وهمومهم فيلتقط مثلاً قولاً للجنرال ديغول اثر هزيمة عام 1967 بأن “على العرب أن يخرجوا من ظلمات”القرون الوسطى“، إذ أثاره هذا القول قبل 50 سنة وحفزه لكتابة تعليقات طويلة لشدة ألمه من بؤس أوضاع أمته منذ ذلك الحين. وأسمح لنفسي، بأن استطرد أنا شخصياً في هذا المقام، باقتباس كلمات قليلة من قصيدة نثرية – نشرت الشهر الماضي في ص. 11 من جريدة الأخبار 14/4/2018 لشاعر عراقي على ما أظن، يدعى جعفر المهاجر، يخاطب فيها السيدة زينب، عليها السلام بالقول:
“قولي لهم: إن لم يكن لكم دين فكونوا!
“عرباً!
“كونوا شجراً!
“كونوا حجراً … لكن كونوا …!
ألا تختصر هذه الكلمات ألمنا جميعاً وألم المرحوم جواد؟
7- في التعليق على فكره الأدبي والنفسي والفلسفي
أيها الأخوة، لست بناقد أدبي، ولا أدعي هذه الصفة إطلاقاً ، غير أنني أعتبر نفسي، وبكل تواضع، قارئاً جيداً وأسمح لنفسي بالتعليق على بعض آرائه لشدة ما هزتني كلماته وأفكاره.
أ- في النبطية
ماذا تشعرون أيها الأحبة، عندما يكتب لنا أبو حيان هذه الكلمات القليلة جداً عن النبطية التي أحبها من أعماق القلب؟
“فيها … بقية لأهل … وبقية لأحبة…
“فيها ألوان ماضي.
“فيها مثواي الأخير!
أو ليس هذا شعور كل كائن بشري نحو بلده ومسقط رأسه ومسرح طفولته؟
شخصياً، رأيت في هذه الكلمات المعدودات من الأحاسيس والحنان ما يفوق كامل القصيدة الطويلة للشاعر الفرنسي الشهير لامارتين عن بلدته Milly ou Terre Natale جمالاً وإبداعاً.
ب- الهرم والشيخوخة
مع تقدم أبي حبان في العمر، نلحظ حديثه عن الهرم والشيخوخة، وكيف يبرز بأدق التفاصيل التبدلات الجسدية التي تطال جسم الإنسان بصورة بطيئة ومستمرة، فيرسم لنا تحركها هذا بشكل تعجز عنه ريشة كبار الفنانين. كما ويحلل لنا بذكاء ولطف الشعور النفسي المتدرج بالشيخوخة، بكلمات تفوق صدقاً ودقة تحاليل أكبر علماء النفس في العالم إذ يتحدث عن أحد المسنين المقيم في عزلة قاتلة في غرفته – والذي يتساءل فور علمه بوفاة أحد معارفه – كم كان يبلغ من العمر؟ حتى يعمد إلى مقارنة سن المتوفي بنفسه، من أجل اكتشاف مبررات تبعد صورة شبح الموت عن مخيلته.
د- في المقارنة بين فكري أبي حيان وساراماغو
منذ أكثر من عشر سنوات، قرأت تحليلاً مختصراً لفكرة الموت لدى الأديب العالمي البرتغالي خوسيه ساراماغو الحائز على جائزة نوبل للآداب، عن روايته الشهيرة “انقطاع الموت” الصادرة عام 2006 أي بعد أربع سنوات من نشر كتاب أبي حيان “صرنا على الليستة” فلاحظت بأن ساراماغو يتحدث بسوداوية وأسى من كون الناس ينسون مع الزمن فكر واسم كبار المبدعين ويعطي مثالاً على ذلك الشاعر الإغريقي هوميروس وملحمتيه الإلياذة والأوديسة، فيقول: بأن قلة من الناس قرأت أعمال هوميروس غير أن عدداً أكبر سمع باسمه وبأنه مع مرور الزمن سوف “ينسى الأثر حتى الاسم الذي سوف ينسى أيضاً في ما بعد. ويتمنى ساراماغو بأن يتذكره البعض ويقول عنه بأنه ألّف شيئاً جيداً أو على الأقل أنه كان رجل خير.
ولكن، خلافاً لهذه الصورة السوداوية الحزينة التي يرسمها ساراماغو لنهايات التاريخ البشري فإن أبا حيان يرسم لنا في مؤلفه المذكور ص 53 – 54 -55 صورة ولا أجمل ولا أبهى، عن الأيام التي علينا أن نعيشها بوعي، وبرؤية مختلفة كلياً عما يصوره الآخرون فيقول:
- إذا كانت الحياة تُفرضُ علينا فرضاً لتنتهي، بعد أجل معين، بالموت الذي يُفرضُ علينا هو أيضاً، فرضاً.
- “وإذا كنا نعاني، خلال هذه الحياة، ألواناً من العذاب الجسدي والنفسي، إلاّ ان – وهنا بيت القصيد – باستطاعتنا، متى تحقق لنا وعي الذات ووعي الوجود على نحو سليم، بأن نجعل من حياتنا الأرضية جنّة حقيقية، تنسينا الجنة الموعودة .
ويستعرض لنا هنا جمالات الحياة التي تحيطنا، ويعددها:
“كسحر الطفولة البريئة، ومتعة المعرفة، ونصرة الحق، ومقارعة الباطل وفرحة الإنجاب، وقدسية الصداقة وعزة النفس ويقظة الضمير وسوى ذلك من المعاني الإنسانية الجليلة التي تنسينا همومنا اليومية من مرض وخيبة وإحباطات وكوارث وحروب وشر وخطيئة…
إن هذه الصور الجميلة لمباهج الحياة التي عدد بعضها أبو حيان، والتي تأتينا نتيجة لوعينا الفكري للذات وللوجود المحيط بنا، هي أكثر من كافية لتجعلنا نشعر بالاطمئنان النفسي الكبير والسلام الداخلي وبراحة الضمير، وبالتالي بتسليمنا بالرحيل النهائي عن دنيانا بسعادة و هدوء.
ويضيف أبو حيان بأن على الإنسان أن يسيطر على الحياة من أجل إعلاء شأنها والارتفاع بمستواها إلى أن نبلغ مرحلة من العمر، نشعر معها، بأن نضجنا قد اكتمل، وأننا لا نستطيع أن، نعلو أكثر مما علونا، فندرك حينئذٍ أننا بحاجة إلى الموت باعتباره التاج الذي نكلل به حياتنا!
أو ليست هذه الصورة المشرقة التي علينا أن نفكر برسمها لنشاطنا البشري أبهى من الشريط الحزين والسوداوي الذي رسمه ساراماغو؟
أيها الأحبة،
من غريب الصدف، أنني قرأت، بعد اتصالي الهاتفي الأخير بأبي حيان وبتاريخ 23 شباط الماضي، في جريدة النهار، للسيد عصام منصف، الذي لا أعرفه، والذي عمل، على ما يبدو في ثانوية برج البراجنة الرسمية التي أدارها أبو حيان، كلمة للشخص المذكور، يرثي فيها زميلاً سابقاً له درّس وإياه في تلك المدرسة، ويطلب فيها بنهاية كلمته أن يطيل الله بعمر كل من جواد صيداوي وفؤاد سليم اللذين أدارا تلك الثانوية في عهده بنجاح.
وهنا أتساءل ألا يعتبر هذا القول المصادفة تأكيداً على رحيل حبيبنا براحة ضمير كاملة على كافة الأفعال الجيدة التي أنجزها في مسيرته؟!
خاتمة
- أذكر، عندما كنت في العاشرة من العمر، أنني قرأت، في كتاب قواعد اللغة الفرنسية وفي أم المدارس بالذات مثلاً هندياً يقول:
“من زرع شجرة قبل موته، لم يعش عبثاً، فإن هذه الشجرة ستعطي ثمراً، أو على الأقل، ظلاً لمن سيأتي بعده”
إنطبع هذا القول في ذاكرتي منذ ذلك الحين.
وأتأكد اليوم أكثر من السابق بأن عزيزنا طبق هذا المثل في حياته فعلاً: بزرعه العلم والوطنية والقيم في عقول طلابه وعارفيه وقرائه!
غير أن أشد ما يؤلمني، هو شعوري بأنه رحل وحيداً منزوياً على سرير مرضه بعيداً عن أحبته من الأقربين والأبعدين كاتماً حزنه وجراحه وفقاً لقول عمر الخيام “علينا أن نكتم الحزن لأن العصافير الجريحة تختبئ لتموت”
عزاؤنا أنه رحل من دنيا الوجود إلى عالم الخلود.
تعزية من القلب لأسرته وأنسبائه ومحبيه وعارفيه ورفاق دربه الكثر: اليوم وغداً وبعد غد.
أيها الأحبة، اعذروا لي الدمع في عيناي ذلك أن جيلي، يعاني هذه الأيام، من تسارع فقدان الأحبة.
9- تمنٍ
وآمل أن يسعى البعض من الأخيار للعمل على إطلاق اسم فقيدنا على أحد شوارع البلدة التي أحب او لإقامة نصب له في إحدى ساحاتها والسعي أيضاً لدى وزارتي التربية أو الثقافة لتسمية إحدى الثانويات التي أدار أو علّم فيها أو إحدى قاعات جامعته التي تعلم فيها باسمه تخليداً لذكراه”.
تصوير عباس علوية