بين العراق ولبنان: الفساد عريس البلاد

أوجه شبه عديدة تجمع المشهدين، العراقي واللبناني. ليس المقصود هنا فقط تفشي الفساد بشكل يجعل من زمرته كياناً أقوى من الدولة فحسب، هناك إلى ذلك معاناة الشعب مع طبقته السياسية، وعمق التدخل الخارجي، والانقسام المذهبي، وكثرة التحديات الداخلية والخارجية.

التظاهرات الشعبية التي تجتاح مدن الجنوب العراقي، وخصوصاً البصرة والعمارة والناصرية والنجف لليوم السابع على التوالي، احتجاجاً على انقطاع التيار الكهربائي وسوء الأوضاع المعيشية، وتفشي البطالة وتردي الخدمات الحكومية وانتشار الفساد، والمطالبة بمحاسبة الفاسدين، والتي خرجت عن الإطار التقليدي للتظاهر واستدعت إجراءات امنية استثنائية، بالرغم من ضبابية بُعدها السياسي، تستحق التأمل لبلد يمتلك احتياطاً نفطياً وموارد طبيعية يفترض أن تجعل شعبه ينعم برفاهية وتعليم وخدمات يُحسد عليها، لا أن يشتهي سكان مدنه الكبرى فضلاً عن الأرياف التيار الكهربائيوأبسط الخدمات العامة.  
في العراق ولبنان، الخارجَين من انتخابات نيابية وتقف تعقيدات عدة دون تشكيل حكومة جديدة، ثمة نقطة التقاء تتعلق بتحدي بقاء الدولة بحدّ ذاتها، قبل أي شيء آخر. وكما في بلاد الأرز كذلك في بلاد الرافدين لا يمكن الركون لمقولة أن الناس قالت كلمتها بشكل ديموقراطي، الديموقراطية قد تصبح مع المنطق الطائفي وغياب الحريات وتفشي السلاح واستنكاف القضاء، ذريعة لتغطية الفساد والفاسدين، وإغراق الدولة ومؤسساتها وأجهزتها ببحر الفساد.
قبل أسابيع قليلة انتهت الانتخابات العراقية، وبات معروفاً أن الموقع الأول ذهب لتحالف «سائرون» بزعامة مقتدى الصدر، والثاني لتحالف «الفتح» التابع للحشد الشعبي، وحل ائتلاف “النصر” الذي يتزعمه رئيس الوزراء حيدر العبادي في الموقع الثالث. وتراجع ائتلاف “دولة القانون» الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق نوري المالكي إلى الموقع الرابع.  أما في المناطق الكردية، وخلافاً لكل التوقعات فقد أعطت الانتخابات «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بزعامة مسعود بارزاني الموقع الأول بين الكتل الكردية، وهو ما قد يمنحه دوراً بارزاً في لعبة التحالفات لحسم معركة تشكيل الكتلة الأكبر في البرلمان.
قد تكون أبرز التحديات التي تواجه الحكومة العراقية العتيدة، تداعيات انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران وقرار الرئيس دونالد ترمب ممارسة ضغوط اقتصادية غير مسبوقة على طهران وكل ذلك يفتح الباب لجولة جديدة صعبة من التجاذب الأميركي – الإيراني، والعراق أحد ساحات هذا التجاذب إلى جانب سوريا طبعاً.
ومن أبرز المشكلات إعادة إعمار المدن والبلدات التي دمرت أو تضررت بفعل حروب تنظيم داعش والحرب عليه، ولهذا الأمر أهمية إذ إنه يتصل بإعادة النازحين إلى أماكنهم. وعدم الإسراع في إعادة الإعمار هذه سيؤدي إلى عودة مشاعر الإحباط والغضب لدى أبناء المكون السني وهي المشاعر التي سهلت سابقاً تسلل المتطرفين إلى الواجهة وارتكابهم مغامرات دموية مكلفة كان أبناء هذا المكون في طليعة ضحاياها.
ويضاف إلى ذلك معالجة الوضع الاقتصادي المتردي وارتفاع معدلات البطالة والفقر ومكافحة الفساد الذي تسبب في أوسع عملية نهب للدولة منذ إطاحة نظام صدام حسين، وتفاقم أزمة المياه بعد بدء تركيا تشغيل سد «إليسو» على نهر دجلة.
أثبتت التجارب أن العراق لا يستطيع مواجهة المرحلة المقبلة بتجاذباتها الإقليمية – الدولية وباستحقاقاتها الداخلية ما لم ينطلق جدياً في عملية بناء الدولة، ولا يمكن مواجهة المشكلات والتحديات والاستحقاقات بمنطق العصائب والمجموعات والمليشيات والسلاح والعصبيات، المسألة تحتاج عودة لمنطق الدولة والدستور وهذا كفيل بترميم المعادلة العراقية وإصلاح ما لحق بالنسيج الوطني بفعل سياسة التدخل الخارجي والإملاء والقطيعة، وفي مقدم كل ذلك إعادة جَسر العلاقات الشيعية – السنية على قاعدة الشراكة الوطنية الحقيقية والتساوي في الحقوق والواجبات في ظل المؤسسات ودولة القانون.
إن تصحيح العلاقات الشيعية – السنية كفيل بمنع تكرار تجربة “داعش” وإغلاق الباب أمام أي تسلل إقليمي بغطاء مذهبي لتدمير مكونات بلاد الرافدين، وترميم العلاقات العربية – الكردية يعطي البلاد حصانة أمام التدخلات الخارجية وجعلها ساحة تجاذب. المطلوب عودة العراق فاعلا في محيطه العربي وفي المجتمع الدولي.
لبنان الخارج أيضاً من انتخابات نيابية أجريت وفق قانون قيل إنه سيصنع المعجزات، ويقف منتظراً ولادة حكومة تحتاج اجتراح المعجزات لتصحيح الخلل القائم على كل المستويات، مدعو هو أيضاً لإعادة ترميم علاقاته الوطنية، وإحياء فكرة الدولة، والمضي بشفافية ومن دون إبطاء في معالجة الفساد ووقف الهدر. لكن دون ذلك تحديات وحسابات وأهوال، عبّر عنها كاتب رصين بالتغريد قائلاً: “رأيت الفساد ينتحب خوفا من الانتخابات المكسيكية المبقعة بالمخدرات والمافيات والاغتيالات. وكنت رأيته مذعورا من نتائج الانتخابات في لبنان والعراق . نم قرير العين يا عزيزي الفساد. يهددونك ثم يلتفون بعباءتك. الفساد عريس البلاد”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى