هل الأسماك في بحرنا صالحة للاستهلاك؟!
في خضمّ فورة الحديث عن تلوّث البحر في لبنان، ومع صدور نتائج تحاليل قامت بها مصلحة الأبحاث الزراعية بيّنت أن لا شاطئ صالحاً للسباحة في هذا البلد، وبانتظار ما سيُفرج عنه المجلس الوطني للبحوث العلمية قريباً من نتائج لعيّنات مياه أخذت من أكثر من نقطة من الشاطئ اللبناني، لا يزال اللبنانيّ “يغرق” في دوّامة من القلق، أو على الأقلّ من الحيرة، حيث تزدحم الأسئلة وتُطرح أكثر من علامة استفهام!
وإذا كانت الحقيقة الدامغة التي لا مفرّ منها تفيد بأنّ بحرنا ملوّث بدليل ما نراه بأمّ العين وما تُظهره مختلف نتائج الفحوصات (وإن كان من الضروري علمياً تحديد حجم التلوّث وماهيته وكيفية إجراء الفحوصات)، فإنّ الإجابة على أحد الأسئلة التي يطرحها المواطن راهناً تبدو واضحة ومعروفة. هل الثروة البحرية ضربها التلوّث؟ّ!
المعادلة سهلة: بحر لبنان ملوّث، إذاً سمكه ملوّث! هذا ما يؤكده الاختصاصي في بيولوجيا البحار وخبير الحيوانات الغازية في الجامعة الأميركية في بيروت البروفيسور ميشال باريش، لكنه يعقب موضحاً:”أنا أتناول سمك لبنان وأطعم أطفالي أيضاً”!
فماذا يعني هذا الأمر؟!
يقول باريش في حديث لـ “لبنان24” إن “الدراسات العلمية في هذا الموضوع غائبة عن لبنان، مع أنّ إجراء فحص للكشف عن وجود سموم في السمك سهل جداً ويمكن لأي كان إجراؤه في المختبر”.
هذه الإجراءات منوطة بطبيعة الحال بالوزارات المعنية، لا سيّما وزارة الزراعة المعنية مباشرة بالثروة السمكية. لكننا في لبنان، لم نسمع في السنوات الماضية أنّ دراسة أجريت على السمك، بل يتمّ الاكتفاء بالتحذير من مخاطر التلوّث لناحية فقدان الثروة السمكية!
“مش كل السمك ملوّث”
ويتابع باريش: “عندما نقول إن السمك ملوّث، فإن العبارة تكون منقوصة وغير دقيقة ذلك أنه علينا معرفة حجم التلوث وتبيان كمية السموم فيه، وهذا لا يتمّ إلا من خلال دراسة علمية. فمثلاً، يمكن أن نكتشف وجود معدن الرصاص في سمكة ما، إنما علينا معرفة نسبته كي نقرر ما إذا كانت صالحة للإستهلاك أو لا، علماً أنّ المعدلات تتباين بين دولة وأخرى بحسب القوانين، فيُمنع استهلاك مادة غذائية في بلد معيّن لكنها تكون مسموحة في بلد آخر (مثلاً تحظر أوروبا بيع لحوم مسموحة في الولايات المتحدة كونها تحتوي على هرمونات ممنوعة فيها).
ويضيف باريش: “ثمّ إن كل سمكة مختلفة عن الأخرى وبالتالي تتأثر بالتلوّث بطريقة مغايرة. علمياً نقول إنه كلّما كانت السمكة معمرّة وكبيرة الحجم وتتناول الكثير من الأسماك كلّما زادت فرص تكديسها للمعادن والسموم، مثلاً نجد أن نسبة التلوّث في أسماك السردين أقلّ من التونة وكلب البحر (القرش)”!
على أي حال يُطمئن بروفيسور باريش “أنّ أحداً لن يموت مسمماً فور تناوله سمكا ملوّثا. على الإنسان أن يستهلك سمكا ملوثا بكميات ولفترة زمنية طويلة كي يبدأ بالتضرر من جراء تكدس المعادن في جسمه”.
التلوّث موجود ولكن…
إذاً، هذه هي حال أسماك بحر لبنان. لعلّها لا تختلف عن أحوال ثروات سمكية في بلدان أخرى، فالتلوّث آفة عالمية. لكن في لبنان، التلوّث فاضح وواضح. ليس في البحر وحسب، بل في كل مكان. يسأل بروفيسور باريش:”ماذا عن اللحوم والدواجن والخضار التي تُروى بمياه الصرف الصحي، أليست أيضاً ملوّثة؟ أولسنا نستهلكها جميعاً أيضاً؟! إننا للأسف نأكل تلوّثاً، ونشرب تلوّثاً، ونتنفس تلوثاً، ونرقص وندخن النراجيل على تلوّث كامن في أراض استُحدثت عبر طمر نفايات “معمرّة” في البحر”!
لكن، رغم هذا الواقع الأليم، لا يروق لبروفيسور باريش ما يحصل من تهويل مقصود وممنهج في بعض الأحيان، ما يترك المواطن في مهبّ عواصف الإشاعات والمعلومات المغلوطة. يقول:” علينا أن نفكر ونتصرف بعقلانية. التلوّث موجود، إنما علينا أن نعرف أين نسبح ومتى. فلنتجنب أيضاً إطلاق الأحكام كلّما حدث أمر ما! إنّ صور الأطفال والأفراد الذين يقال إنهم تسمموا وأصيبوا بأمراض جلدية مختلفة جراء السباحة في البحر ليست كلّها صحيحة، أو بالأحرى قد لا تكون ناتجة من التلوث بل مثلاً من لسعة قنديل. فلنترك الكلمة النهائية دائماً لأصحاب الاختصاص والعلم”.
وفي هذا السياق، يوضح بروفيسور باريش مسألة أساسية فيما يتعلق بإجراء الدراسات والفحوصات على المياه، فيقول:”نعلم جيداً أن مياه الصرف الصحي في لبنان لا تعالج وتصب في البحر، ونعلم جيداً أن بحرنا يردم حالياً بـ “جبال” النفايات على طول الساحل اللبناني، ولذلك يمكن أن نعتبر أن كل البحر “ملوث”، لكن نسبة تلوثه تختلف بين منطقة وأخرى وبين يومٍ وآخر ذلك أن الملوثات تتغير كمياتها حسب عدة عوامل من ضمنها:
– المنطقة (المناطق أو المدن ذات الكثافة السكانية العالية).
– المكان (المسافة من مكان صب المجرور أو مصدر آخر للتلوث).
– التيار والأمواج (تخلط المياه أو تدفع الملوثات بعيداً عن مصدر التلوث).
– وقت أخذ العينات (يتغير حسب المواسم، وحالة البحر، وحسب الأيام والساعات).
– بالاضافة الى عوامل مناخية وبشرية أخرى.
ويتابع: “إن التحاليل المخبرية ليست بالصعبة ويمكن لأي شخص أن يأخذ عينات إلى المختبرات لتحليلها والوصول إلى نتيجة. لكن هذه التحاليل تعطي صورة عن وضع المياه في وقت ومكان معينين.”
في المحصلة، لا خلاص إلا بالتحرّك من أجل وقف التلوّث. بلدنا مريض بيئياً، لكنّ الحلول لمعالجته موجودة وقابلة للتحقيق. تنقصنا الإرادة. ينقصنا ربما الوعي. تنقصنا ربما المواطنة!