صدى وادي التيم – أمن وقضاء /
كتب منير الربيع في المدن:
هل ما جرى كان محاولة انقلاب؟ أم محاولة للسيطرة على الساحل السوري من قبل “عناصر النظام السابق” وإخراج عناصر السلطة الجديدة منه بالكامل؟ مهما كان الهدف أو الغاية لخوض هذه المعارك والتي شهدت جرائم فظيعة ضد المدنيين، وتجاوزات بحق الأسرى، إلا أنه لا شيء يبرر ما جرى، من ارتكابات، ومن مشاهد تشير بوضوح إلى دخول سوريا في مرحلة من الاحتراب الأهلي، مع خوف مستمر من تكرار هذه المشاهد وتوسع انتشارها نحو مناطق ومحافظات أخرى، ما لم تعمل السلطة الجديدة في سوريا على معالجة كل الأسباب سريعاً وذلك من خلال الدعوة إلى حوار وطني عام وشامل وموسع، والعمل بجدية للوصول إلى مصالحة وطنية حقيقية. ما جرى أظهر الكثير من الأحقاد داخل المجتمع السوري، والتي كان النظام السابق قد عمل على تغذيتها.
ما جرى لم يكن حدثاً عابراً، ومعالجته لا يمكن أن تتحقق بالآلية العسكرية أو الأمنية، لا بل علاجها سياسي بداية، وفي السياسة وحدها يمكن سدّ كل المنافذ التي تسعى جهات كثيرة إلى التسلل منها، والرهان على صراعات الداخل والخلافات السياسية والمذهبية والطائفية لأجل إضعاف سوريا كدولة، وجعلها جزراً متناحرة وغارقة في الدم والاقتتال. صراعات الداخل، ومحاولات العزل والتهميش هي التي وجدت فيها جهات خارجية فرصة للتسلل إلى الداخل السوري، ولفرض وقائع جديدة على الإدارة الجديدة، أو ضرب المسار الجديد الذي يفترض أن تكون سوريا قد سلكته. تبقى الاستحقاقات الداخلية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، هي الاستحقاقات الأساسية التي تواجهها الإدارة الجديدة، ولكن أيضاً لا يمكن إغفال التحديات الخارجة، والمفروضة بحكم موقع سوريا، وسعي كل قوة إقليمية أو دولية أن تسعى لتوسيع نفوذها انطلاقاً من الجغرافيا السورية.
استغلال إسرائيل
خطورة ما جرى أنه جاء بالتزامن مع مشروع إسرائيلي مكشوف عبر عنه مسؤولون إسرائيليون لحماية “الأقليات” في سوريا. وهي النغمة نفسها التي كان قد لعب عليها نظام الأسد في تقديم نفسه حامياً للأقليات في مواجهة الأكثرية السنية، بينما اليوم تتنامى نغمة حماية الأقليات في مواجهة التطرف الإسلامي، وهو ما يسعى الإسرائيليون لاستغلاله مع الدروز أو الأكراد، في محاولة لإضعاف السلطة الجديد، وسوريا ككل، ودفعها إلى تقديم تنازلات عن مساحات واسعة من الجغرافيا السورية بالإضافة إلى تنازلات سياسية استراتيجية تقود إلى التطبيع وفق ما تمليه إسرائيل. تستخدم إسرائيل قوتها العسكرية، والخروقات التي تسجلها في صفوف بعض المجموعات في سوريا للضغط على سوريا وتحقيق مكاسب سياسية بعيدة المدى. وكان واضحاً التعبير الإسرائيلي عن حماية “منطقة للدروز” ومنطقة أخرى للأكراد، وهو ما يُفترض تلقائياً أن يؤثر على العلويين الذين سيتحركون في الإطار نفسه.
يأتي ذلك على وقع تضارب في المصالح والحسابات الإقليمية والدولية، وخصوصاً بين إسرائيل وتركيا، تركيا وإيران، من دون إغفال حسابات روسيا التي تسعى إلى الاحتفاظ بقواعدها والحفاظ على مصالحها على الساحل السوري، كما أنها تسعى إلى تقديم نفسها كحامية للعلويين من جهة، وباعتبارها الطرف الأكثر قدرة على ضبط الأمن والاستقرار في منطقة الساحل، الأمر الذي يفترض أن تستفيد منه السلطة الجديدة، على أن يكون الثمن ضمان مصالح روسيا وقواعدها، ودفع أحمد الشرع إلى الإقلاع عن أهداف ذات سقف مرتفع قد وضعها على الروس من بينها تسليم بشار الأسد، وإعادة مبالغ مالية طائلة وضعت في المصارف الروسية.
أهداف إسرائيل واضحة إذا، وهي دب الفوضى في سوريا وإضعاف السلطة الجديدة لتحقيق الأهداف الإستراتيجية التي تسعىى إليها. أهداف روسيا واضحة أيضاً، وقد يلتقي الطرفان على تحجيم أو تقويض نفوذ تركيا الآخذ بالتوسع في المنطقة انطلاقاً من البوابة السورية. هنا لا يمكن إغفال أهداف إيران ومصالحها أيضاً، وهي التي لعبت سابقاً على وتر “حماية الأقليات” في مواجهة “التطرف السني” والتي تسعى إلى استعادة نفوذ قد خسرته مع هروب بشار الأسد وسقوط نظامه، لذلك فإن إيران قد تجد طريقاً إلى الاستثمار في أي صراعات أو نزاعات طائفية ومذهبية لإعادة تثبيت وضعها في سوريا وفتح طرق إمداد محورها بين سوريا ولبنان ولا سبيل لذلك إلا الفوضى، خصوصاً أن الكثير من المسؤولين الإيرانيين كانوا قد تحدثوا بوضوح عن أن حكم الشرع لن يستقر.
ضباط الأسد ينشطون مجدداً
ما جرى لم يكن بالأمر البسيط، فبحسب المعلومات التي تكشفها “المدن” فإن السلطات الروسية سمحت قبل أيام قليلة لكبار ضباط نظام بشار الأسد بحرية الحركة، وخرج هؤلاء من الأماكن المخصصة لهم في موسكو والتي كانوا فيها خاضعين للإقامة الجبرية. وتؤكد المعلومات أن هؤلاء جميعهم يحتفظون بأرقام هواتفهم السورية نفسها، وجددوا التواصل مع كل المجموعات العسكرية التابعة لهم في الساحل السوري، تحضيراً لتنفيذ عملية عسكرية واسعة والسيطرة بشكل كامل على الساحل السوري، وبحسب المعلومات فإن الهجوم كان يُفترض أن يحصل بعد أسبوع من الآن، وقد بدأت اجتماعات تنسيقية من قبل “المجلس العسكري”. علمت الاستخبارات السورية بالأمر، واتجهت نحو منطقة “بيت عانا” التي حصلت فيها المواجهة الأولى، وعندها تحركت كل المجموعات في مختلف مناطق الساحل.
الشرع وسياسة التهدئة
منذ سقوط نظام بشار الأسد، انتهج أحمد الشرع سياسة التهدئة في الداخل والسعي إلى حصول اعتراف من الخارج، لذلك لم يخض أي معركة عسكرية ضد المحسوبين على النظام السابق، ولا ضد فصائل أخرى، وفتح المجال أمام التسويات. في الأيام الأولى لسقوط النظام أوفد الشرع أقرب المقربين إليه ومن بينهم مستشاره محمد الأحمد إلى الساحل السوري واللاذقية للقاء وجهاء المنطقة والتفاهم معهم وطمأنتهم. وفي حينها تم إرسال قوات عسكرية وأمنية شديدة الانضباط لضبط الوضع الأمني والعسكري ومنع حصول تجاوزات. طوال الأسابيع الماضية تمكنت هذه القوى من ضبط الوضع ولم تحصل تجاوزات أو تعديات. ولكن إثر اندلاع المعارك الأخيرة، دخلت جحافل كثيرة من مناطق متعددة ومختلفة، جزء كبير من هؤلاء ارتكبوا المجازر ونفذوا الاعدامات الجماعية ومارسوا الإذلال بحق الأسرى. علماً أن ذلك يمكنه أن يؤسس لتأبيد الصراعات، وتوالي المعارك.
كل ذلك لا يمكن للشرع أن يواجهه إلا بالحفاظ على الوحدة الوطنية وتحقيق المصالحة الفعلية، خصوصاً أن سوريا لا يمكن أن تُحكم من قبل طرف أوحد، وهو يحتاج إلى إشراك الجميع في العملية السياسية. لمواجهة أي صراعات طائفية ومذهبية ستتحول إلى صراع عسكري أو أمني تتداخل به جهات دولية وإقليمية كثيرة. خصوصاً أن تكرار هذه المشاهد والأحداث، ستؤدي إلى انقلاب عام في التعاطي الدولي مع سوريا، ومع السلطة الجديدة، فتتقلص الفرصة الممنوحة، ويضيق الأفق، ما يفسح في المجال أمام تجدد محاولات الإنقلاب على هذه السلطة في حال عدم النجاح بتحصين نفسها من الداخل وبالداخل ككل. خصوصاً أن عدم المعالجة السريعة والجدية، سينتج المزيد من المجازر وتغرق سوريا ببحر من الدماء، أو أنها ستتحول إلى مناطق نفوذ متوزعة على قوى متعددة لكل منها ارتباطها الخارجي.