مرجعيون: زنبقة الجنوب اللبناني وقلب جبل عامل
هنري زغيب*
على الرغم من قرار اتفاق وقف إِطلاق النار، ما زالت إِسرائيل تخترق هذا الاتفاق، وتمعن في بلدات ومدن جنوبية لبنانية تخريبًا وجرفًا وقصفًا وتدميرًا واقتلاع أَشجار الليمون والزيتون وحملها إِلى الداخل الإسرائيلي.
من هذه البلدات المنكوبة: قرى قضاء مرجعيون، هذه الناحية الزنبقية العامرة من جنوب لبنان.
في هذا المقال إِضاءة عليها من خلال كتابين.
قضاء مرجعيون: بلدات وبلديات
في سِفْرٍ مُوَثَّق من 250 صفحة حجمًا كبيرًا في لغتَين عربية وإِنكليزية، أَصدرَت الصحافية رونيت ضاهر اشتراكًا مع روجيه نهرا كتاب “قضاء مرجعيون–بلداتٌ وبلديات“، غنيًّا بالنصوص الرسمية والتاريخية والسياحية، وصُوَرٍ مُصاحِبَةِ النُّصوص لإِبراز ما في هذا القضاء الجنوبي من كنوزٍ تراثية وفيرة. ومرجعيون واقفة على حَدّ الخطَر بسبب موقعها الجغرافي وسط الصراعات الإِقليمية والدولية، لكنها مثالٌ وطيدٌ للحياة الإِسلامية المسيحية.
في قضاء مرجعيون 32 بلدة، ثمانٍ منها على الشريط الحدودي مباشَرةً، وفي سهله امتدادًا إِلى سهل البقاع بطُول تسعة كلم وعرض أَربعة، وارتفاعِه 450 مترًا عن البحر، تصب فيه ينابـيعه غزيرة.
قرى عامرة مزدهرة بتراثها
في القضاء اتِّحاد بلديات جبل عامل مُرورًا بــ”جديدة مرجعيون” بلدة العلْم والثقافة والإِرث الحضاري تاريخًا ومجتمعًا وواحاتٍ تربويةً وعلْميةً ودينيةً وتراثيةً وأَعلامًا ودوائرَ رسمية، وصولًا إِلى “الخيام” موقعًا وتاريخًا ومعتقلًا وآثارًا، فإِلى إِبْل السقي (بلدة شيخ الأَدب الشعبيّ سلام الراسي)، فالطيّبة فالقليعة فالصوَّانة فالقنطرة فالوزّاني فالبويضة فالقُصَير وبلاط وبني حيان وبْليدا وبُرج الملوك وتولين وحُولا ودير ميماس (واحة الزيتون) ودِبِّين ودير سريان ورُبّ ثلاثين وسَرَدَا وطَلُّوسَة وعدَيسة وعدشيت وعين عرب وعلْمان وقبريخا وكَفَركِلا (وفيها “بوابة فاطمة”) ومجدل سلْم وميس الجبل ومركَبَا ومُـحَـيْـبِـيـب ووادي الحُجَير، مع صُوَرٍ للبيوت والآثار والمناظر الجنوبية الجميلة وصُوَر أَعضاء المجالس البلدية ونُبذَة عن كُلِّ بلدية بسكَّانها وناخبـيها.
مدًى بين الأَرض والسماء
في الفصل الأَخير “بين الأَرض والسماء” مجموعةُ صُوَرٍ جميلةٍ لطبيعة الجنوب اللبناني المميَّزة: سماءٌ تُوشِّحُها غيوم، قُرىً تَتَلَحَّف الثلج، وديانٌ تتخاصَر وتتعانق بِخُضرتها وأَشجارها وأَزهارها وعبَق الأَرض، بحيراتٌ صغيرة وبساتينُ وفيرة وبيوتٌ غزيرة ودُروبٌ وأَحياءُ ومَعالِـم، ثم الخاتمةُ دليلٌ رقميّ إِحصائي مفصَّل للقرى الاثنتين والثلاثين، فدليلُ بلديات القضاء ودليلُ المخاتير والمراكز الإِدارية الرئيسة والمدارس والجمعيّات والنوادي والمصارف والمستوصفات والمستشفيات.
“قضاء مرجعيون: بلدات وبلديات” ليس كتابًا سَرْديًا انطباعيًا، بل هو مرجِعٌ توثيقيٌّ علميٌّ سياحيٌّ يُعادُ إِليه لأَيّ معلومةٍ عن بلدات القضاء وبلديّاته، هو الواقف على حُدود الخَطَر، لكنه صامدٌ بعناد أَهله على التشَبُّث بأَرضهم والمقاوَمةِ من هذه الأَرض كي تَسْلَمَ في جميعِها الكاملِ أَرضُ لبنان.
جديدة مرجعيون
في كتاب آخَر عن جديدة مرجعيون تأَنَّى في وضعه هنري أَبو عراج لكنّ الموت قصفَه قبل رؤْية كتابه مطبوعًا فأَصدَرتْه زوجتُه عبلا عبلا أَبو عراج في 328 صفحة قطْعًا كبيرًا، مهّد له رئيس مجلس النواب المحامي نبيه بري بمقدِّمةٍ وسَمَ بـها مرجعيون قَلْبَ جبل عامل، وفيه كنيسةُ لبنان ثانيةٌ بعد القدس على طريق السيد المسيح إِلى أُعجوبة العرس في قانا.
الكتابُ مجموعةٌ نادرةٌ قيِّمةٌ من وثائق وأَخبار ومعلومات ومخطوطات وكتُب واجتهادات في حفْظِها حفْظُ ذاكرةِ كلّ لبنان.
في ثلاثة أَبواب رئيسة يتنقَّل الكتاب ليرسم جديدة مرجعيون معالـمَ وأَعلامً وأَعمالًا.
الباب الأَوّل بدأَ في فصله الأَوّل بلمحةٍ عامة عن لبنان الجنوبي، في فصله الثاني عن موقع مرجعيون وطبيعتها، في فصله الثالث عن مدينة عيون في التاريخ، في الرابع لـمحةٌ موجزة عن نَسَب العائلات المرجعيونية، في الخامس تاريخُ تلك العائلات، وفي السادس والسابع لُـمَحٌ تاريخيةٌ ومعلوماتٌ عامة عن مفاصلَ رئيسيةٍ في المدينة.
واقتصر البابُ الثاني على ثلاثة فُصولٍ حول العلْم في مرجعيون، تاريخ الصحافة المرجعيونية، والحركة الأَدبية في المدينة.
وختم البابُ الثالث بفصوله الأَربعة خارطةَ الانتشار المرجعيوني والحياةَ الاجتماعية والنواحي الدينية والاقتصادية في المدينة.
وإِذا كانت مرجعيون وجدَيْدة مرجعيون على معالـمَ عامةٍ مشتَرَكَةٍ إِلى حــدٍّ واسعٍ مع سواها من بلدات لبنان ومدُنه، فخُصُوصيةُ المدينة تتجلّى في اسمها الدالّ على كثرة عيونٍ فيها تتدفَّق في مرج، حتى تبنّى المرج اقتبالَ تلك العيون اسمًا في التاريخ.
علْم وأَعلام
تتجلَّى خصوصيَّةُ جديدة مرجعيون في العلْم حَجمًا ومستوىً وأَعلامًا مبرِّزين في إِشعاع الرُّوح الثقافية في المنطقة والجوار، من مدارسَ قديمةٍ إِلى مدرسة مخول ضاهر أَبو كسم إِلى مدرسة الروم الأُرثوذكس إِلى مدرسة الأَميركان سنة 1867 إِلى مدارسَ حديثةٍ رسمية وخاصة منذ مطلع القرن العشرين نهضَت بالبلدة وجوارها إِلى أَعلى مراتب التعلُّم والثقافة.
ومن خصوصيَّتها: الصحافةُ المرجعيونيةُ بين مجلة “المرج”، وجريدة “النهضة المرجعيونية”، وجريدة “القلم الصريح” وسواها، ما جعل للمدينة حُضورًا إِعلاميًا اتَّسع إِلى كلّ لبنان رافدًا صحافيين وأَقلامًا ضالعةً في حيويَّة النهضة الصحافية والأَدبية والفنية.
من أَعلام هذه النهضة: الشعراءُ فؤاد جرداق وجورج جرداق ونقولا قربان وحافظ محفوظ وعصام محفوظ وسواهم وُصولًا إِلى المؤَلِّف الموسيقي وليد غلمية. وفي الوسط الديموغرافي عرفَت مرجعيون موجاتٍ من الهجرة تجلَّى فيها أَعلامٌ مرجعيونيون في العالم، على رأْسهم الطبيب الشهير مايكل دبغي والباحث أَلبرت حوراني، وسواهما مِـمَّن تَبَوَّأُوا مراجعَ ومناصبَ في دُوَل عالـمية كبرى.
ورسم الكتابُ خارطةً للحياة الاجتماعية وما فيها من مِهَن وحِرَف ونوادٍ وجمعيات تعمل على نهضة المدينة، وخارطةً أُخرى للمعالم الدينية بأَبرشيات أُرثوذكسية وكاثوليكية ومارونية وإِنجيلية تَجعل المدينة أُضمومةَ كنائسَ ومعابدَ ضارعةً إِلى الله الواحد الأَحد.
كتاب “صفحات من التاريخ: جديدة مرجعيون” مرآةٌ أُخرى من مرايا لبنان التي تكوِّن للبنان مكتبةً تاريخية وتأْريخية وتراثية تجعل لبنان موسوعةً حضاريةً تُرَكِّز إِرثه الكبير وتراثه الغني فيُهَيِّئُ أَبناءُ اليوم لأَحفاد الغد وطَنًا يعتزُّ به دائمًا جميعُ أَبنائهم وأَحفادهم على الـمُقْبل الـمُشْرق من مستقبل التاريخ.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).