أدمغتنا تتذكّر؟ وأجسامنا أيضاً…
في كتابه “العقل المجسّد” الصادر عام 2021, يعود الطبيب النفسي السريري الكندي, توماس أر. فيرني, بنا بالزمن إلى خمسينيات وستينيات القرن العشرين. يومذاك, أجرى فريق من جامعة ميشيغان – بقيادة عالِم النفس التجريبي الأميركي, جيمس في. ماكونيل – دراسات باستخدام الديدان المسطّحة لاستكشاف ديناميات الذاكرة لديها.
دُرّبت الديدان على الاستجابة لمحفزات الضوء والصدمات الكهربائية وقُطعت رؤوسها وأنتجت أجسامها رؤوساً جديدة, فتذكّر العديد منها عملية التدريب آنفة الحصول. كما دُرّبت على ربط إشارة ضوئية بصدمة كهربائية وطُحنت وأُطعمت لديدان أخرى, فتعلّمت الأخيرة الاستجابة لمحفّز الضوء أسرع من مجموعة التحكّم. فسّر الباحثون الأمر كدليل على عدم كون ذاكرة الديدان محصورة بالرأس إنما موزّعة في مختلف أنحاء جسمها. مرّت العقود وزاد اليقين بأن الدماغ ليس خزّان ذاكرتنا الحصري والوحيد.
نقفز مباشرة إلى سنة 2014. حينها, أشارت دراسة لجامعة كاليفورنيا – لوس أنجلوس (نُشرت في مجلة “eLife”) إلى أن آثار الذاكرة المفقودة قد تبقى في نواة الخلية العصبية, ما قد يسمح بالتذكّر المستقبلي أو, أقله, التكوين السهل لذاكرة جديدة ذات صلة. ذلك ضدّاً على اعتقاد ساد لسنوات بأن ذكرياتنا تُخزَّن في المساحات التي تمرّ فيها النبضات من خلية عصبية إلى أخرى, أي المشابك العصبية؛ فحين تتدهور حالة الأخيرة, تتلاشى الذكريات إلى غير رجعة.
درس الباحثون الخلايا العصبية للرخويات البحرية في أطباق زراعة الخلايا. وطيلة أيام, شكّلت الخلايا العصبية تلقائياً عدداً من المشابك العصبية. بعدها, قام العلماء بحقن الخلايا العصبية بالناقل العصبي السيروتونين, ما تسبّب في تكوين المزيد من المشابك. وعندما كبحوا إنزيم تكوين الذاكرة وفحصوا الخلايا العصبية بعد 48 ساعة, عاد عدد المشابك إلى وضعه الأولي. لكن مع فارق هام؛ فقد تقهقرت بعض المشابك الأصلية والجديدة لإتاحة المجال أمام إعادة تشكيل العدد الأوّلي الدقيق للخلايا.
كان الاكتشاف مفاجئاً, إذ لفت إلى أن جسم الخلية العصبية يعلم عدد المشابك العصبية التي من المفترض أن يشكّلها عبر تشفير جزء بالغ الأهمية من الذاكرة. لكن المفاجآت لم تقف عند ذلك الحدّ ولنا عودة لها بعد التعمّق أكثر في بواطن المشابك العصبية. فقد سبق لعلماء الأعصاب أن حدّدوا مناطق مختلفة من الدماغ يتمّ فيها تخزين الذكريات. لكن أبحاثاً لفريق من جامعة تينيسي ذهبت أواخر العام 2022 إلى أن الذاكرة قد تكون موجودة في أغشية الخلايا العصبية. فصحيح أن الأخيرة مصمّمة لنقل المعلومات إلى خلايا أخرى, إلّا أن العمليات الكيميائية التي تحدث بين المشابك العصبية هي المسؤولة عن التعلّم والذاكرة.
يتكوّن المشبك العصبي من غشاءين اثنين: أحدهما مرتبط بالخلية قبل المشبكية التي تنقل المعلومات, والآخر بالخلية بعد المشبكية التي تتلقاها. ويتشكّل كل غشاء من طبقة ثنائية من الدهون تحتوي على بروتينات وجزيّئات حيوية أخرى. أما التغييرات التي تحدث بين الغشاءين – وتشمل كميّات البروتينات المختلفة في الأغشية وبنية الأغشية نفسها – فهي الآلية الأساسية للتعلّم والذاكرة.
وجد الباحثون في الدراسة التي نُشرت في مجلة “PNAS ” أن تعريض نموذج من الطبقة الدهنية البسيطة للتحفيز الكهربائي قد يؤدي إلى تغييرات طويلة الأمد فيها. كذلك, ثبت أن بروتين “FMRP”, الذي يتسبّب فقدانه بمتلازمة كروموسوم “X” الهش والإعاقة الذهنية, يلعب دوراً رئيساً في تنظيم الاتصالات المشبكية بين الخلايا العصبية. وقد أضاءت دراسة نُشرت في مجلة “eLife” نهاية العام 2021 على دور هذا البروتين الأكثر تعقيداً من المتداوَل. إذ بعد فحص الخلايا العصبية في منطقة الحُصين في دماغ فئران, وجد علماء من جامعة “روكفلر” أن للبروتين المذكور وظيفتين مختلفتين: تنظيم البروتينات المطلوبة لتقوية الاتصالات مع الخلايا العصبية الأخرى داخل امتدادات الخلية العصبية؛ وتنظيم الحالة العامة للتعبير الجيني في الخلية العصبية داخل جسم الخلية.
كيف؟ عندما تتلقى خلية عصبية ما اتصالاً وارداً على شكل إشارة كهربائية, يمكنها تعديل قوة المشابك عن طريق إنشاء مستقبلات جديدة أو إزالة أخرى قديمة, ما يتطلب إنتاجها على عجل لمجموعة بروتينات جديدة. ويحدث إنتاج البروتين في التفرّعات العصبية للخلية, المليئة بجزيّئات الحمض النووي الريبوزي بانتظار ترجمتها إلى بروتينات. هناك, يضطلع بروتين “FMRP”- الذي ترتبط به أكثر من 900 من جزيّئات الحمض النووي الريبوزي – بدور مفتاحي: تأخير الترجمة عبر الارتباط بتسلسلات الحمض؛ وإطلاقها بالانفصال عنه.
وفي مكان آخر, اكتشفت مجموعة بحثية من مستشفى جامعة بون – في دراسة نُشرت في شباط/فبراير الماضي في مجلة “Nature Neuroscience” – أنواعاً مختلفة من الخلايا العصبية تنشط معاً أثناء عمل الذاكرة المكانية وتُنسّقها موجات الدماغ. وبحسب الفريق, فالذاكرة الترابطية – الضامنة لعملية ربط معلومات عدّة بعضها ببعض – تمكّن, في سياق الذاكرة المكانية, من تذكُّر مواقع أشياء معيّنة في البيئة المكانية – القدرة التي تُصاب بالتراجع مع التقدّم في السنّ.
سجّل الباحثون نشاط الخلايا العصبية الفردية في أدمغة مرضى الصرع أثناء قيامهم بمهمة افتراضية تتعلّق بتذكّر مواقع أشياء مختلفة. وأظهرت التسجيلات أن أنواعاً مختلفة من الخلايا العصبية اكتسبت نشاطاً أثناء المهمة. ففي حين استجاب بعضها لأشياء معيّنة, أبرزت أخرى استجابة لمواقع معيّنة. ولاحظ العلماء أن التفاعلات بين أنواعها المختلفة تعمّقت بمرور الوقت, لا سيّما عندما تذكّر المشاركون في الاختبار الشيء ومكانه بدقّة.
نعود الآن إلى حيث بدأنا, أي إلى كون الجسم – بعيداً عن الدماغ وخلاياه – مسرحاً للذكريات. فقد اكتشف باحثون من جامعة نيويورك أن التعلّم من خلال التكرار قد يكون أساسياً لجميع خلايانا. إذ يمكن لخلايا الكلى أيضاً تخزين المعلومات والتعرّف على الأنماط بطريقة مماثلة للخلايا العصبية, وفقاً لدراسة نُشرت الشهر الماضي في مجلة “Nature Communications”. وقد أظهرت خلايا الكلى علامات ما يُسمّى بـ”التأثير المتباعد الكتلي”. وهذه الخاصية, الحاضرة بقوّة لدى جميع الحيوانات على المستويين الخلوي والسلوكي, تسهّل تخزين أجزاء صغيرة من المعلومات بمرور الوقت, بدلاً من تخزين جزء كبير منها دفعة واحدة.
خارج الدماغ, تحتاج الخلايا إلى تتبُّع الأشياء. وإحدى الطرق تتجلّى بواسطة بروتين “CREB” الأساسي لمعالجة الذاكرة المتواجدة في الخلايا العصبية وغير العصبية. فعندما تمرّ إشارة كيميائية ما في الخلايا العصبية, تبدأ الأخيرة بإنتاج البروتين المذكور الذي يقوم بدوره بتشغيل المزيد من الجينات التي تغيّر الخلية بشكل أكبر. وهذا دفع بنيكولاي كوكوشكين, عالِم الأعصاب في جامعة نيويورك, وزملاؤه لتحديد ما إذا كان البروتين المتواجد في الخلايا غير العصبية يستجيب بالمثل للإشارات الواردة.
أدخل الباحثون جيناً اصطناعياً في خلايا الكلى الجنينية البشرية. ويتطابق الجين إلى حدّ بعيد مع الامتداد الطبيعي للحمض النووي الذي ينشّطه البروتين – أي المنطقة التي يطلق عليها الباحثون “جين الذاكرة”. ثم قاموا بهندسة خطّين خلويّين منفصلين, أحدهما من الأنسجة العصبية والآخر من الكلى, لإنتاج بروتين متوهّج في كل مرة يتمّ فيها تشغيل “جين الذاكرة” الخاص بها. واستخدموا نفس الجين الذي تركن إليه الخلايا العصبية لدى إعادة هيكلة نفسها أثناء تكوين الذاكرة طويلة المدى. فجرى عرْض الخلايا غير الدماغية لتسلسلات مختلفة من النبضات الكيميائية اختيرت لتنشيط نفس أجزاء الخلايا التي تنشط عادةً في الخلايا العصبية أثناء التعلّم.
اعتماداً على مقدار الضوء الصادر عن توهّج البروتين, أُتيح للفريق معرفة مدى قوة تشغيل “جين الذاكرة”. وأدّت أنماط التوقيت المختلفة للنبضات إلى استجابات مختلفة. فعندما طبّق الباحثون أربع نبضات كيميائية مدّتها ثلاث دقائق تفصل بين كل منها 10 دقائق, كان الضوء بعد 24 ساعة أكثر توهّجاً من ذلك المنبعث من الخلايا التي طبّقوا عليها نبضة واحدة مدّتها 12 دقيقة. وهذا, في الواقع, هو جوهر البصمة التي يطبعها نمط زمني محدّد من المواد الكيميائية في الخلايا العصبية الدماغية.
شكّلت التجربة مثالاً واضحاً على أن الخلايا غير العصبية قادرة على تذكُّر الأحداث الماضية وتعديل نفسها بنفسها. وخلص الفريق إلى وجود فائدة صحية للقدرة تلك. فامتلاك الخلايا السرطانية, مثلاً, لأرشيف ذكريات قد يساعدها ي على استقاء دروس محدّدة من نمط العلاج الكيميائي – كميّة وتوقيتاً.
إذاً, يبدو أن التطبيقات الصحية لهذا الاكتشاف المذهل واعدة للغاية. لكنه, بحسب العلماء, يفتح أفقاً واسعاً أيضاً أمام إعادة تعريف علاقتنا العضوية بأجسادنا كبوّابة لجوانب متعدّدة من ذكائنا ووعينا المحصورين تقليدياً بأدمغتنا. وفي ذلك, ليس ثمة اختلاف بيننا وبين الديدان المسطّحة ومخلوقات أخرى نتشارك وإياها أصلاً ذات الذكاء والوعي الكونيّين.
روني عبد النور