كان لنا منزل في صور وقتل ….
صدى وادي التيم – لبنانيات /
يوم الجمعة في 8 تشرين الثاني 2024، قرابة الساعة السادسة والربع مساء، قتل جيش العدو الإسرائيلي منزل عائلتي في مدينة صور في إحدى غاراته التي استهدفت شارع سينما حمرا (أو شارع حيرام). هو المنزل الذي شيّده جدي بين أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. وهو ربما آخر شاهد على عمارة تلك الحقبة الزمنية في حي الرمل وواحد من أجمل بيوته. الأكيد أنّه كان جديرًا بالاعتبار كجزء من تراث لبنان الحديث المبكر. وحتى وإن لم يكن، كان كذلك في نظرنا. لم نهدمه لنشيّد عمارة متعدّدة الطبقات مكانه كما فعل معظم أصحاب الأبنية المنخفضة الارتفاع التي أنشئت في الفترة التي أنشئ فيها منزلنا. وأجابت عائلتي بالرفض، سماسرة العقارات الذين سعوا إلى شراء أبنية الحي القديمة لاستبدالها بأبنية “حديثة” عالية ومشاريع ربحيّة تدرّ المزيد من الثروة عليهم. لم أكن أنا صاحبة الفضل في ذلك. فعائلتي بأجمعها كانت متعلّقة بالمنزل وليست في وارد بيعه لأحد أو هدمه. نعم، أحببنا منزلنا وكنّا فخورين جدًا بمساحاته الواسعة وموقعه المطلّ على البحر و”الحواكير” التي تزنّره من جميع جوانبه. هو المنزل الوحيد في الحيّ الذي بقي حتى تاريخ مقتله محاطًا بمساحة مزروعة بالأشجار المثمرة وأنواع الشتول والنباتات.
أما عائلتي فهي أسرتنا وأسرة عمّي. كبرنا وأولاد عمّي معًا كأخوة، ولا زلنا. انتقلنا إلى المنزل العائلي في أوائل السبعينيات، وسكنّا في الطابق الأوّل من الجهة المطلّة على البحر. أمّا عمّي وعائلته فسكنوا في الطابق الأرضي. مع مرور الزمن، لم يعد هناك من سكان دائمين في المنزل سوى والدتي (في الطابق الأوّل) ومساعدتين منزليّتين، وابنة عمّي وابنها (في الطابق السفلي) ومساعدتين منزليتين. أما نحن، باقي أفراد الأسرة، فنعود دائمًا إليه في العطل، والفرص، والأعياد، والمناسبات. هو المنزل العائلي الذي يجمعنا، نحن العائلة المكافحة التي تغرّب أفرادها للدراسة والعمل، والتي نشأت على التعلّق بالأرض وكره الاضطهاد والظلم. العائلة التي ينتمي أفرادها للوطن فقط.
كان منزلنا خاليًا من سكّانه عندما جاء الأمر بقتله. نعم “القتل” هو الفعل الصحيح. “قتل المنازل” (Domicide) هو التدمير المتعمّد والممنهج لمنازل المدنيين والبنية التحتية والانتهاك المنهجي لحقوق السكن. استخدم هذا التعبير للمرّة الأولى الكاتبان ج. دوغلاس بورتيوس وساندرا سميث في عام 1998 في كتابهما Domicide: The Global Destruction Of Home. ويعود أصل الكلمة إلى المصطلحين اللاتينيين domus (منزل) وcaedo (قتل). الخريطة التي نشرها المتحدّث باسم العدو الإسرائيلي بعد الانتهاء من جريمته أظهرت دائرة حمراء حول منزلنا وحول بناء آخر في الجهة المقابلة من الشارع مع صورة تشير إلى أنّ هذا البناء المقابل هو “مقرّ قيادة إرهابية تابعة لحزب الله”. كذلك كان هناك دائرة حمراء حول بناء في الشارع الموازي. جميعها كانت مبان سكنية، سوّيت بالأرض، دُمّرت… قُتلت في ثوانٍ، في أقلّ من لمح البصر. لم يبخل المتحدّث باسم جيش العدو علينا، فقد وزع أيضًا الدليل على جريمته، فيديو يظهر لحظة الاغتيال، فيديو أشبه بلعبة إلكترونية. لم أتصوّر يومًا أنّ الإبادة يمكن أن تحصل في هذه السرعة والبرودة. هي لعبة الموت، يتحكّم بقرار القتل فيها الذكاء الاصطناعي الفتاّك الذي يديره فكر إجرامي يبغي إبادة شعب بأكمله.
لا أجد مبرّرًا لاستهداف منزلنا. هل أخطأ برنامج (Lavender) الذي اعتمده الجيش الإسرائيلي في اختيار أهداف وقوائم القتل في حربه على غزة، أو ما شابهه من برامج، حين حدّد منزلنا كهدف؟ باعتراف مصمّمي برنامج (Lavender) قد تصل نسبة الخطأ إلى 10%. الحقيقة، كما أظهر تحقيق لموقع صحافي في القدس، أنّ نسبة المدنيين الأبرياء الذي يقضون من خلال العمليات العسكرية الموجّهة بالذكاء الاصطناعي هي أعلى بكثير كون الوقت لا يسمح للعنصر البشري من التحقق من الهدف. أم أنّهم استهدفوا بيتنا فقط لإيلامنا، كجزء من سياستهم المعتمدة على إلحاق الضرر بالبشر والأرض والحجر تحت ذريعة استهداف منشآت عسكرية وأمكنة مدنيّة يحتمي بها أفراد من حزب الله؟ وانتقاء منزلنا بالذات لم يصبنا نحن فقط بالألم، بل جميع أقاربنا وأصدقائنا ومعارفنا وأهالي صور الذين يعرفونه، إذ هو جزء من ذاكرة المدينة وإرثها الثقافي، الشيء الذي ميّزه عن معظم الأبنية التجارية التي نشأت من حوله في فترة حرب 1975-2000.
فيديو يوثق لحظة الجريمة
أعجز عن التفكير في احتمال ثالث. حقدهم هو دافعهم. حلمهم المستبدّ بإسرائيل كبرى أصبح هاجسًا لزهق الأرواح، وسلب الأرض، وتدمير الطبيعة والمنازل والمدن. فوفق ما ذكرت الوكالة الوطنية للإعلام، فقط في لبنان الجنوبي دمّرت إسرائيل 37 بلدة و40 ألف منزل في لبنان بشكل منهجي في محاولة منها لخلق منطقة عازلة غير قابلة للحياة على مدى أكثر من عام على العدوان. هذا هو الشرّ المطلق والإرهاب بعينيه. كان عندنا منزل في صور وقُتل. لا أدرى كيف وجدت الطاقة لكتابة هذه السطور ولكني أعرف أنّه حتى لو أزهقت الحرب أرواحنا سيأتي حتمًا بعدنا من يطالب باستعادة الأرض والحقّ. ولن نتخلّى عن أرضنا وحقنا أبدًا.
منى خشن