فرنسا تستعيد لبنان… وتحميه من نتنياهو؟

صدى وادي التيم – أمن وقضاء

بعد إقرار مؤتمر باريس مساعدة المليار دولار، بات السؤال الغربي وحتى الفرنسي: لأيّ سلطة ستصرف هذه المساعدة المالية الكبيرة؟ هل تعطى لحكومة تصريف الأعمال أم لسلطة برئيس للجمهورية ينتخب قريباً؟

من نتائج مؤتمر “مساندة الشعب والسيادة في لبنان” أنّ فرنسا أثبتت فعلاً أنّها الدولة الوحيدة التي تهتمّ بمصير البلد الصغير. خلافاً للاستنتاجات “البلديّة” لسياسيين لبنانيين بأن لا وزن لباريس في معالجة أزمته، بات على هؤلاء مراجعة نظرتهم إلى “الأمّ الحنون”. صحّة القول إنّ الحلّ والربط في يد الولايات المتحدة الأميركية لانتشال لبنان من براثن حربها وإسرائيل ضدّ إيران، ينقصها التدقيق. والتحذيرات التي تطلقها باريس ممّا يحدق بالبلد يفترض عدم التعاطي معها بخفّة، فـ”اكتشاف” سياسيين لبنانيين أنّ فرنسا ضعفت في إفريقيا مثلاً لا يعني أنّ الأمر ينسحب على سائر ميادين الصراع الدولي.

دلّت الوقائع على أنّ باستطاعة فرنسا أن تنسج تحرّكاً مشتركاً مع أميركا في شأن لبنان، على الرغم من اختلاف الأوزان بين الدولتين. أبرز نقاط التمايز في اختلاف الأوزان هي القدرة على التأثير على إسرائيل، وتحديداً بنيامين نتنياهو. فباريس لا تملك سوى القدرة على التواصل وتكرار موقفها.

“سلاسة” التّنسيق الأميركيّ الفرنسيّ

مع التباين بين باريس وواشنطن في مقاربة أزمة الفراغ الرئاسي، قبل الحرب الإسرائيلية المجنونة ضدّ لبنان، رست علاقتهما على جديد. فمنذ أشهر بات التنسيق والتعاون بينهما حول لبنان “أكثر سلاسة” من مرحلة سابقة شابها الارتباك. بات التواصل دوريّاً بين الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان وبين نظيره آموس هوكستين، فالأخير بعد محادثاته الإثنين في بيروت حول تطبيق القرار 1701 عرّج على باريس ليطلع مستشارة ماكرون آن كلير لوجاندر على فحواها.

الخفّة اللّبنانيّة و”المصالح” الفرنسيّة

ما يزعج بعض الفرنسيين أنّ بعض اللبنانيين يعتبرون أنّ باريس تتحرّك حيال لبنان لتحقيق مصالحها في المنطقة، كأن لا مصلحة للبنان في حراكها. لغة المصالح في السردية اللبنانية لدى هؤلاء تقود إلى شيء من السخرية أحياناً. فلبنان بمقياس المصالح الاقتصادية “لا يمثّل شيئا” مقارنة مع غيره. التبادل الاقتصادي الفرنسي التركي مثلاً تفوق قيمته مجمل الدخل القومي في لبنان.

“المصالح” التي يهتمّ لها الفرنسيون في لبنان تتجاوز الفوائد الاقتصادية، وتعود للعلاقة التاريخية، ولأنّه فرنكوفونيّ، وللتقارب الثقافي. يبقى لبنان الوحيد الذي لفرنسا حضور تاريخي فيه إقليمياً، بعدما تراجع هذا الحضور في سوريا مثلاً.

تفترض الواقعية التسليم بأنّه لولا زيارات لودريان لبيروت وعواصم القرار، لما كانت الدول اهتمّت بأزمة لبنان في السنوات الماضية. واندفاعة باريس بعد الحرب لوقف النار باتت هدفاً رئيسياً، على الرغم من اقتناعها بأنّ واشنطن هي الأقدر على تحقيقه. تدرك أنّ العائق يكمن في التطابق الكامل بين أميركا وإسرائيل. الأخيرة تهدف إلى “تغيير لبنان”، فيما فرنسا ترى أنّ إضعاف إيران يجب ألّا يتمّ بتدميره بحجّة ضرب الحزب، وتسعى إلى إقناع واشنطن بهذه النظرة.

القراءة الفرنسيّة: نتنياهو يستنسخ غزّة

لم يكن عن عبث قول وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إنّ “لبنان يعاني من حرب لم يختَرها، تهدّد تماسكه الاجتماعي”. سبقه إلى ذلك تحذير وزير الدفاع الفرنسي من مخاطر حرب أهلية.

بالتالي ينطلق الحراك الفرنسي من قراءة للأحداث تقوم على الآتي:

1- ما يقوم به نتنياهو في الجنوب يتطابق مع ما يفعله في غزة. البعض يبسّط الأمر فينسب الاندفاعة العسكرية لرئيس الوزراء الإسرائيلي إلى إصراره على إنقاذ نفسه والبقاء في الحكم. لكنّ الأمور أعمق من ذلك بكثير. تريد تل أبيب ضمان عدم عودة النازحين إلى جنوب لبنان، وتسعى إلى قيام منطقة عازلة “نظيفة” بالمفهوم الإسرائيلي، أي بلا سكّان. ويفترض النظر إلى إصراره على استمرار الحرب انطلاقاً ممّا دأب على قوله منذ سنوات، أي حماية إسرائيل من إيران، وبالتالي من الحزب.

2- لدى نتنياهو فرصة بعد 7 أكتوبر 2023 لن تتكرّر بفعل التضامن الدولي الذي حصده اختراق حماس لأمن إسرائيل، وبسبب استعداد الجبهة الداخلية والبيئة الإسرائيلية لتحمّل كلفة الحرب الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية. ولذا سيواصل الحرب.

3- يهدف الجانب الإسرائيلي إلى فرض الاستسلام على الحزب. وهذا لا يبدو واقعياً لأنّ إيران والأخير لن يسلّما بالهزيمة.

السّلوك الأميركيّ و”سدّ اليونيفيل”

4- المشكلة تكمن في أنّ الأميركيين، في سلوكهم، يتركون كلّ الاحتمالات مفتوحة، ثمّ ينسجمون مع ما تقوم به إسرائيل. كانوا يقولون إنّه لا حرب على لبنان، وإذا بها تقع.

5- ليس من سدّ في وجه إسرائيل حتى اللحظة سوى صمود قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام (اليونيفيل) على الرغم من الضغوط لسحبها. ومخاطر خطّة نتنياهو هي التي دفعت دولها إلى الإصرار على بقائها، حتى إشعار آخر. وعلاوة على حوادث إطلاق النار عليها في الناقورة ومحيطها لدفعها إلى الانسحاب، تسعى القوات الإسرائيلية إلى تهشيل القوة البحرية لليونيفيل. هذا ما اضطرّ سفينة ألمانية تابعة للقوات الدولية في البحر إلى إطلاق النار على مسيّرة إسرائيلية حلّقت فوقها لحملها على الانسحاب. وتفيد معلومات “أساس” أنّ برلين لخشيتها من مخاطر إلغاء دور القوات الدولية، بدأت تناقش إمكان حظر توريد السلاح إلى إسرائيل بدورها، كما تفعل فرنسا.

القناعات الفرنسيّة وانتخاب الرّئيس

إذا كانت فرنسا ترى مخاطر الاندفاعة الإسرائيلية، فكيف يمكنها معاكسة المخطّط الذي تخشاه؟

إضافة إلى التمسّك بالقوات الدولية على الأرض، تعطي أهمّية قصوى لتنفيذ القرار 1701 . لهذا ينطلق التحرّك الفرنسي من جملة قناعات:

– ما يمكن الجزم به أنّ لبنان ليس مثل غزّة. الأخيرة ليست دولة قائمة مثل لبنان الذي يمكن العمل على حماية استمراره. فالمفهوم الإسرائيلي للوضع الفلسطيني الذي تطابق معه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، هو أن لا مجال لقيام دولة فلسطينية، وأنّ الحلّ بتطبيع إسرائيلي – عربي مقابل تحسين الوضع المعيشي والاقتصادي للفلسطينيين مع إبقائهم تحت نظام الأبارتايد والفصل العنصري. وهذا لا يمكن أن ينطبق على لبنان.

العمل على انتخاب رئيس للجمهورية قبل وقف النار، لأنّه أمر مهمّ في تحصين التركيبة الداخلية للبلد، لكن مع رؤية لمستقبل الحلول. وانتخابه يشكّل أوّل ردّ على إسرائيل التي حجّتها أنّها تقوم بما تقوم به لغياب سلطة تنفّذ القرار الدولي. ولهذا السبب تتوقّع الدبلوماسية الفرنسية أن يطالب لودريان باجتماع للّجنة الخماسية في شأن لبنان والرئاسة. وإذا كان المرشّح المطروح قائد الجيش العماد جوزف عون وما دام رئيس البرلمان نبيه بري غير مقتنع حتى الآن بتلك الأولوية، وبعض المعارضة ومنها رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع الذي لم يوافق على ذلك بعد… فإنّ الأمر متعذّر.

الضّمانات لإسرائيل ومواصلة الانخراط الأميركيّ

– تطالب إسرائيل بضمانات لتنفيذ القرار 1701 نظراً إلى تجربة خرقه في السنوات الماضية من قبل الحزب. سبق لباريس أن طرحت صيغة إشراف على التنفيذ بإحياء فكرة اللجنة التي سبق أن نصّ عليها “تفاهم نيسان” 1996 الذي أوقف الحملة العسكرية الإسرائيلية على جنوب لبنان. اللجنة تشكّلت في حينها من أميركا، إسرائيل، فرنسا، لبنان وسوريا. ويومها أصرّ الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على ضمّ باريس إلى اللجنة لعدم ثقته بالحياد الأميركي. لكنّها رُفِضت. وحسب الورقة الفرنسية، قيام لجنة شبيهة رباعية كفيل بتوسيع قاعدة الضمانات.

– مستقبل الجنوب موضوع مركزي في الأجندة الفرنسية. فالمعادلة التي سيرسو عليها ستؤثّر على وضع لبنان ككلّ. والاحتمالات خطيرة لتوقّع إطالة وجود العدد الهائل من النازحين في مراكز الإيواء والمدارس. هذا سيضغط على الوضع الداخلي وعلى الأمن وينتج تفاعلات أهلية مقلقة.

وليد شقير – أساس ميديا

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!