في زمن الحرب… الجمعيات اللبنانية تملأ فراغ انكفاء الدولة

في ظلّ الويلات المتعاقبة التي تلاحق لبنان نتيجة إقحامه – أو إقحام نفسه – في حرب ترفضها شريحة واسعة من اللبنانيين, برزت (وتتعمّق) قضية النزوح الداخلي كواحدة من أكثر التحديات هولاً وإلحاحاً. فآلاف العائلات, المثقلة أصلاً بأزمة اقتصادية مستفحلة وانهيار مالي مديد وشرخ سياسي شبه مستعصٍ, وجدت نفسها مضطرة إلى ترك المناطق التي تشهد أوضاعاً أمنية خطرة.

واقع يفاقم الأوضاع الإنسانية في بلد يعاني منذ زمن من تدهور بنيته التحتية وانعدام الخدمات الأساسية, حيث يترسّخ الانكفاء الواضح للدولة اللبنانية عن أداء دورها دعماً وإغاثةً للنازحين. وهذا ما يحمّل الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية العبء الأكبر. فالجمعيات تعمل بأقصى طاقتها في محاولة لسدّ الفجوات ومواجهة شحّ التمويل وازدياد احتياجات النازحين.

“الوضع الأمني مخيف في بعض مراكز الإيواء والجهات الأمنية غائبة بشكل تام. سنكون أمام كارثة حقيقية خاصة وأننا على أبواب فصل الشتاء. هناك نقص كبير في المساعدات على أنواعها وبدأت بعض الأمراض بالانتشار. الجميع يَعد بمدّ يد العون ولم يصلنا شيء حتى الآن”. صرخة رفعتها رئيسة جمعية “الشوف للتنمية”, الدكتور دعد قزي, في حديث لجريدة “الحرة”. وقد لخّصت معاناة الجمعيات من حيث تلبية مروحة واسعة من الخدمات التي تزداد تعقيداً كلّما طال أمد النزوح.

تشمل جمعية “الشوف للتنمية”, التي تأسّست على يد مجموعة من المتطوعين بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس 2020, مركزين مجانيّين: مركز المطران مارون العمار للرعاية الصحية الأولية؛ ومركز المطران إيلي بشارة الحداد للعلاجات النفسية. ويتمّ العمل حالياً على افتتاح مركز الأستاذ سمير الخطيب للعلاج الفيزيائي المجاني. كما تقوم الجمعية بمساعدة المزارعين, لا سيّما في موسم القطاف من خلال لجنة المزارع. هذا إضافة إلى لجنة المرأة التي تُعنى بحقوق المرأة والطفل وتشرف عليها مجموعة محامين متطوعين ومعالجين نفسيين لمتابعة قضايا النساء المعنّفات وأطفالهن.

“كنّا نتوقّع انفجار الحرب وما سيتبعها من عمليات نزوح, لذا صبّينا تركيزنا على الناحية الطبية من أجل تأمين الأدوية اللازمة للنازحين. وفعلاً, بعد فتح مراكز الإيواء, طلبت وزارة الصحة من جمعيتنا الاهتمام بـ13 مركز نزوح وتأمين كافة الخدمات الصحية اللازمة من أدوية عادية وأدوية أمراض مستعصية كما اللقاحات الخاصة بالأطفال والنساء الحوامل. نحرص على زيارة هذه المراكز بشكل دوري أسبوعي, كما أن أبواب مركزنا مفتوحة للنازحين القاطنين في البيوت لتأمين الدواء وإجراء الفحوصات الطبية”.

خطة الطوارئ التي “ادّعت” الحكومة اللبنانية جهوزيّتها, أثبتت فشلها في احتضان النازحين وتوفير احتياجاتهم, بحسب المعنيّين. فكلّ ما أقدمت عليه الوزارة تمثّل بتأمين كميات معيّنة من الأدوية, غير أن الاحتياجات تفوق ذلك بكثير, على حدّ قول قزي. “في حرب تموز/يوليو 2006, توافر دعم هائل على عكس ما نشهده اليوم, حيث أن المساعدات الأساسية من طعام وحليب وحفاضات الأطفال غائبة. لا أدري إن كانت المساعدات متوافرة ولم يجرِ توزيعها, إلّا أن ما يمكن جزمه هو أن حاجات مراكز الإيواء لا زالت غير مكتملة وهناك نقص حادّ في الكثير منها”.

تماشياً مع الصعوبات الاقتصادية التي تعمّق تداعيات الحرب, يرتكز عمل جمعية “الشوف للتنمية”, كما معظم الجمعيات الأخرى, على تطوُّع أطباء نازحين يقدّمون رسالة إنسانية في مراكز النزوح. “نحاول أيضاً توفير دعم للنساء الحوامل, خاصة وأن هذا الأسبوع سيشهد أكثر من عملية ولادة نعمل على متابعتها من الناحية الصحية. لكننا بإزاء كارثة حقيقية, إذ أن الأطفال حديثي الولادة لن يجدوا فراشاً آمناً ولا ثياباً ولا غذاء بانتظارهم”.

مشكلة أخرى لفتت إليها قزي ترتبط بتفشّي الفطريات, لا سيّما بين النساء اللواتي لا يشعرن بالحرية الكافية لناحية ارتداء الملابس في مراكز الإيواء, حيث تتشارك أكثر من عائلة غرفة واحدة, إلى جانب انتشار الجرب والقمل, ما يدق ناقوس الخطر.

وعلى صعيد الضوابط الأمنية, خاصة بعد خروج تسجيلات تتحدّث عن تواجد مسلّحين داخل مراكز إيواء وتوثيق اشتباكات دارت في صفوف بعض النازحين, أكّدت قزي على الغياب التام للسلطات الأمنية أمام المراكز. “هناك بعض المراكز التي ندخلها ونشعر فيها بالراحة والأمان, في حين ينتاب فريق العمل شعور بالخوف والحذر في مراكز أخرى, لا سيّما وأن الإجراءات الأمنية شبه معدومة. في غير مركز, حاولت بعض الجهات الحزبية منعنا من الدخول, لكننا عدنا ودخلنا لممارسة عملنا الإنساني بعيداً عن متاهات الانتماء السياسي والطائفي والمذهبي”.

القدرة على الاستمرار تزداد صعوبة. فالإرهاق النفسي والجسدي بدأ يتسلّل إلى فريق العمل. والوعود بالمساعدة التي أطلقتها الجهات الرسمية وغير الرسمية لم تترجم واقعاً حتى الساعة. أما الغياب شبه الكامل للدولة, فيترك الجمعيات وحيدة في ميدان العمل ما يضعف قدرتها على تلبية الاحتياجات المتراكمة.

“مراكز الإيواء هي صورة مصغّرة عن المجتمع اللبناني وتختلف في التعاطي معنا باختلاف إداراتها. هناك مراكز منظّمة تقدّر ما نقدّمه لها, وهناك أخرى تشعرنا وكأننا خَدَم لا أكثر. مراكز نشعر بالخوف داخلها, حيث يمكن أن نكون عرضة لأحداث أمنية, وأخرى باتت تهدّد بانتشار الأمراض والعدوى. بتنا نعيش المعركة من الداخل, لكن الأب الروحي لمركزنا, المطران مارون العمار, يوصينا دوماً بأن “يكون كبيركم خادماً لكم”, وأن نستمرّ متّكلين على الله”.

فصل الشتاء يقترب. ومع ارتفاع الطلب على الخدمات وتفاقُم المشكلات الصحية والنفسية وتمدُّد الخطر الأمني, يتحوّل الحديث عن كارثة فعلية تلقي بظلالها على مراكز الإيواء واقعاً لا مفرّ منه. فالأزمة باتت أكبر من أن تُذلَّل بجهود الجمعيات (المشكورة) وحدها, ما يعزّز التساؤلات حول دور دولة مستقيلة من مسؤولياتها, حرباً وسلماً, تجاه مواطنيها.

كارين عبد النور _ الحرّة

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى