فاديا ناصر صامدةٌ بثوبها الأبيض في مركز العرقوب الطبي
صدى وادي التيم-لبنانيات/
طيلة عقدين ونصف عملت الممرضة فاديا ناصر مع الناس في منطقة العرقوب المحرومة من الاستشفاء والمستشفيات الحكومية، شاركتهم في أوقات السّلم والحرب، ضمّدت جراحهم وأوجاعهم تحت سماء صافية اجتاحها الدخان والصواريخ. منذ 10 أشهر لم تترك فاديا ناصر منطقتها وأهلها في كفرحمام، إذ “لا يمكننا أن ترك أهلنا هنا من دون دعم صحّيّ وطبابة ودواء ومُعاينة” تقول فاديا لـ”مناطق نت”.
مرّ الشتاء قاسيًا على أهل الجنوب، مخضّبًا بالاعتداءات والدماء، وتلاه صيفٌ ساخن جدًّا، وها نحن على أبواب موسم خريفي جديد بعد مواسم من القصف والحرق والاغتيالات على طول الخط الذي يشمل عديدًا من القرى والبلدات الحدوديّة وغير الحدوديّة. نزح قسم كبير من أبناء تلك البلدات وقسم آخر ينتظر انتهاء الحرب، لم يتخلّوا عن بيوتهم، وفاديا ناصر واحدة من مئات النساء الجنوبيّات اللواتي لم يتخلّينَ عن الأرض وعمّن هم فوق ترابها، لأنّ عملها ورسالتها يتطلّبان بقاءها كي ترعى وتضمّد وتطمئن الناس “ففي حال أقفلنا، ولو ليوم واحد، الناس ستخاف”.
لم تترك فاديا ناصر منذ اندلاع الحرب في الجنوب، دوامها في المركز الصحّيّ الخيريّ الاجتماعيّ في العرقوب، فابنة كفرشوبا، مُمرضة مُجازة Staff Nurse تدير مسؤوليّة المركز التابع لـ”مؤسّسة عامل” في بلدة كفرحمام، وهو مركز قائم منذ 24 سنة في المنطقة كي يقدّم خدمات متنوّعة إلى أبناء القرى المُحيطة. وكانت فاديا تدير هذا المركز يوم كان تحت وصاية جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة ودار الفتوى معًا.
تقول فاديا لـ”مناطق نت”: “يأتي إلى مركزنا، حوالي 1300 مريضِ شهرّيًا، إذ يداوم فيه سبعة أطباء من اختصاصات متعدّدة، بغية تقديم خدمات طبّيّة وصحّيّة إلى أبناء قرى العرقوب، من كفرشوبا وشبعا وكفرحمام وراشيا والفرديس، إلى نهاية الخط، فيغطي نحو 11 بلدة وقرية. وعلى رغم تعرّض المركز للقصف سارعنا إلى إصلاح كلّ الأضرار، إذ لا يمكننا ترك أهلنا هنا من دون دعم صحيّ وطبابة ودواء ومُعاينات”.
برأي فاديا، يشكّل وجود المركز في هذه المنطقة عامل اطمئنان وصمود “لذلك أحضرت فرشًا وأغطية ونمتُ في المركز مع عائلتي، كي لا اضطرّ للتنقّل يوميًّا تحت وابل القصف من المنزل إلى المركز أو بالعكس، أو يمنعني القصف من الوصول إليه”.
طيلة عقدين ونصف تعمل فاديا مع الناس في منطقة محرومة من المستشفيات الحكوميّة أو المشافي التي يمكنها تقديم الإسعافات الأوّليّة على الأقلّ، لا سيّما في زمن الحرب، وهو زمن يلقي بتبعاته على منطقة العرقوب منذ أواخر الستّينيّات، إذ بدأت المنطقة تتعرّض للقصف والعدوان، ولم تبادر السلطات اللبنانيّة المعنيّة، لا سيّما السلطات الصحّيّة والخدماتيّة إلى بناء مشفى وحيد على الأقل.
“One women show”
وعلى رغم كلّ ذلك، كانت فاديا ناصر تقوم بجميع مهام المركز لوحدها، من تسجيلِ المواعيد إلى التلقيح والحقن بالإبر وتوزيع الأدوّية، كلّ ذلك مذ كان المركز بإدارة جمعيّة المقاصد ودار الفتوى. لكن ومع تسلّم “مؤسسة عامل الدوليّة” الإدارة وتوسعة المركز توّزعت المهام على ثمانية زملاء يؤدّون مهامهم بكلّ أريحيّة. وهم جميعهم إلى جانبها ولم ينقطعوا عن العمل طوال 10 أشهر، ما خلا بضعة أيام في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) العام الماضي.
تستثمر فاديا ناصر علاقات لها توطّدت مع عديد من المراكز الصحّيّة والمستشفيات بين منطقتي حاصبيا ومرجعيون لخدمة المركز “فالـ 24 سنة التي مرّت في خدمة الناس جعلت علاقتي بالمعنيّين في المستشفيات في كلّ من قضاءيّ مرجعيون وحاصبيا قويّة حيث كنت أتواصل مع الأطبّاء والإدارات فيها، وأرسل لهم حالات مُعيّنة”.
طيلة عقدين ونصف تعمل فاديا مع الناس في منطقة محرومة من المستشفيات الحكوميّة أو المشافي التي يمكنها تقديم الإسعافات الأوّليّة على الأقلّ، لا سيّما في زمن الحرب، وهو زمن يلقي بتبعاته على منطقة العرقوب منذ أواخر الستّينيّات
عند فاديا لا يهمّ الوقت “فأنا أعمل في مختلف الأوقات، خصوصًا أنّ المرضى يقصدون المركز من مسافات بعيدة، ويتكبّدون مشقّات الانتقال في ظلّ مواصلات شبه معدومة، فهل يجوز أن أقفل المركز؟” تتساءل ناصر.
إستمراريّة برغم القصف
إلى وقت قصير، في شهر تشرين الثاني من العام الماضي غاب الموظّفون عن المركز بسبب شدّة القصف ووقوع منازلهم في مناطق بعيدة “لذا كنت أقوم بأداء الأعمال كلّها معتمدة على خبراتي السابقة” تقول.
منذ 17 كانون الثاني (يناير) من العام الحالي تجول سيّارة إسعاف متنقّلة بين البيوت في منطقة العرقوب “لمساعدة من لا يستطيع التنّقل من كبار السنّ والعجزة، من الوصول إلى مركزنا” تقول فاديا وتصف معاناة الصامدين بـ”الكبيرة”، وتردف: “لذلك بات مركز عامل في العرقوب أساسيًّا ويحمل على عاتقه مسؤوليّات جسامًا، وقد أعانتنا السيارة كثيرًا في خدمات صحّيّة متنقّلة، وهي “كما كل خدمات المركز مدعومة من AFD”.
وتكشف فاديا ناصر عن أنّ “القصف طال المركز، فطُلب منّا أن نُقفله، لكنّني رفضت. أنا وكلّ زملائي نفرح في خدمة الناس إلى درجة أنّنا أنشأنا مجموعة (غروب) لـ500 شخص يستفيدون من الأدوية بالمركز، كي أقول لهم إنّني باقية”. وبرأي فاديا “منتهى الإنسانيّة أن تقدّم أدوية وعلاجات بـ150 ألف ليرة فقط”.
خدمات شبه مجّانيّة
وتضيف: “لقد زارنا عناصر من الكتيبة الهنديّة العاملة في قوّات اليونفيل في جنوب لبنان، وجالوا على المركز واستغربوا كيف نستطيع الاستمرار في خدمة الناس في ظلّ الوضع الحالي، بعدما شاهدوا بأمّ العين عدد المرضى وعدد المنتظرين في الصيدليّة. فثمّة 300 إلى 400 مريض يستفيدون من المركز، إضافة إلى تلقيح 50 طفلًا، أمّا الفحوص المخبريّة فبـ150 ألف فقط ولا يؤمّنها غير مركزنا، إضافة إلى الطبابة بالتأكيد”.
في كلّ مركز من المراكز الصحّيّة في جنوب لبنان نجد سيدات عاملات وقفنَ في الأزمات مع أهلهنّ، فهنّ بطلات مُقاومات، وكنّ أنفسهن كذلك في خلال عدوان تمّوز (يوليو) 2006 وكثيرات جدًّا وعلى مستوى جميع مراكز “عامل” في لبنان، حيث إنّ نسبة المتطوّعات في المؤسّسة بلغت حوالي 80 في المئة من العاملين.
المصدر: سلوى فاضل-مناطق نت