الدكاكين البلدي في لبنان… ثقة وملاذ آمن للفقراء

صدى وادي التيم-لبنانيات/

يكتب الحاج محمود حسني أديب فصولاً جديدة من القصة التي بدأها والده منذ تسعة عقود داخل دكانه التراثي في آخر “سوق الصياغين” في طرابلس اللبنانية، إذ يواظب الرجل المهيب في ممارسة التجارة وفق مبادئ أخلاقية دقيقة، تقوم على الشعور بالفقراء، والربح القليل، وعدم احتكار البضاعة تحت أية ذريعة.

يقول الحاج محمود “أسس والدي الدكان عام 1937، واستمر إلى أن توفي عام 1965، وتابعت العمل بعد أن كنت مساعداً له وإلى اللحظة”. يعتقد الحاج محمود أن “الاستقامة والصدق هي أهم المزايا التي تكسب التاجر ثقة الزبائن والناس”، “وأدى هذا إلى استمرار قدوم الزبائن من الضواحي والضيع البعيدة إلى طرابلس من أجل التبضع”.

ويلاحظ أن “اكتفاء القرى عائد إلى تأسيس متاجر فيها، لذلك خفت حركة التجارة في المحال الصغيرة في مدن لبنان“، وكذلك “تأثرت التجارة بظهور المحال الكبرى إذ يمكن للشاري الحصول على كل حاجاته، فيما كان في السابق يقصد المدينة للتبضع والانتقال بين الدكاكين لتجميعها”.

ثقافة استهلاكية جديدة

إلى ذلك، تشكل دكاكين الأحياء مرجعاً لقاطنيها، وانعكست الأزمة الاقتصادية والمالية بوضوح على كمية الأغراض التي يشترونها، إذ اعتاد اللبناني في الماضي على شراء بعض أنواع الحبوب والبقوليات والزيوت ومواد التنظيف بكميات كبيرة التي كانت تتخذ شكل “العبوات العائلية”، ولكن برز تحول على سلوك هؤلاء، يمكن ملاحظته في الدكاكين، إذ باتوا يشترون بالأوقية ونصف الكيلو، أو مقدار استعمال واحد.

يفاخر الحاج محمود أن “المحل كثيراً ما عرف بـ(أبو الفقراء)”، لأن الزبون “اكتشف أن بضاعة المحل جيدة، وأسعاره معتدلة”، “يأتون لأنهم مطمئنون إلى الأسعار، خصوصاً الفقراء ومتوسطي الحال لأنهم على يقين بأنهم سيوفرون”.

يبهر الرجل زبائنه بقدرته على الحساب اليدوي على رغم تقدمه في السن، وعدم لجوئه إلا ما ندر إلى الآلة الحاسبة، وإصراره على استخدام “العدسة المكبرة” في بعض الأحيان لتدقيق الفواتير والأرقام.

دكاكين “البلدي”

ترتبط زيارة الدكاكين التراثية بالبحث عن “الإنتاج البلدي”، إذ يأتي الزبائن من أماكن بعيدة أحياناً بحثاً عن زيت الزيتون الأصلي والصابون البلدي، أو حتى السمن الحيواني المحضر يدوياً، وطحينة السمسم، إضافة إلى ماء الورد وماء الزهر ودبس الرمان أو الخروب والشاي والخل. ويلاحظ أديب قدوم زبائن كثر من مناطق بعيدة من أجل هذه السلع تحديداً، لأن المتاجر الكبرى تقدمها مصنعة.

من جهة أخرى، يتخوف على مستقبل الدكاكين في ظل تقدم أصحابها في السن، والمنافسة الشديدة من قبل المتاجر الكبرى التي تديرها شركات ضخمة، متطرقاً إلى أثر تقلب العملة وسوق الصرف على المحال الصغيرة، وتعرضها للخسارة بسبب عدم مشاركتها في احتكار البضاعة، واستمرارها في البيع إلى حين انتهاء المخزون.

من الذاكرة   

يتجاوز الدكان البعد الاقتصادي القائم على التبادل السلعي، ليرتقي في بعض الأوقات إلى مستوى الفضاء العام لمناقشة الأفكار السياسية والثقافية، كما تشكل بعض الدكاكين جزءاً من الذاكرة الجماعية لسكان المدن والقرى، فمن خلاله تعرف الناس إلى بعض السلع والماركات الوافدة، وهذا ما نلتمسه من الارتباط الوثيق لبعض الزبائن مع هذا الدكان أو ذاك، أو حتى عودة بعض المغتربين إلى السوق القديمة في طرابلس لكي يقصدوا “الدكاكين التي تغشاها البركة”، على حد تعبير واحد منهم.

وهذا ما يعايشه الزائر للمتاجر المتواضعة في سوق العطارين، التي يعود تاريخ تأسيسها إلى عشرات السنين. يؤكد الحاج محمود المصري (84 سنة) أنه “أسس الدكان بالشراكة مع شقيقه عبدالرحمن في 1970 أيام العز”، في حينه انتقل من الشغل في النجارة إلى التجارة لأنها “مهنة مباركة”.

اليوم وبعد مرور أكثر من نصف قرن يستمر في العمل. يتحدث عن “تراجع الحركة الاقتصادية في السوق بعد انقضاء شهر رمضان”، كما يشكو من انهيار الليرة اللبنانية والضياع بسبب “الدولرة”، قائلاً “لم أتقبل حتى اللحظة أن السلعة التي كان ثمنها 1000 ليرة لبنانية، أصبح 100 ألف ليرة، وهذا شيء عظيم”.

ينطلق المصري من تجارب الماضي، ليسلط الضوء على صعاب الحاضر “عندما افتتحنا المحل ملأناه بضاعة من كل صنف ونوع بـ5 آلاف ليرة (0.056 دولار)”، “وفي الماضي إبان عقد الثمانينيات كانت السيدة تنزل إلى السوق حاملة ورقة 250 ليرة لبنانية كانت تجهز البيت وتشتري الأغراض كاملة لأربعة أبناء”.

وأضاف “كانت أكبر فاتورة خلال السبعينيات لا تصل إلى 70 ليرة، وكانت تحتاج إلى عتالين لنقلها”. ويعلق الحاج حمدي أحد الزبائن على ذلك “كنت موظفاً عندما أصدر مصرف لبنان ورقة 250 ليرة لبنانية، في حينه أحضرتها إلى السمان ردها إليَّ، لأن دخله الأسبوعي لا يبلغ هذا المستوى المرتفع”، متحدثاً عن عامل نفسي يربط بين الزبون وصاحب الدكان، لأن “كبار السن يقصدون الدكاكين التي اعتادوا عليها منذ زمن بعيد، لأنها تعد جزءاً من ذاكرتهم، وبسبب العلاقة المستمرة منذ عشرات السنين، وشعورهم بالأمان والصدق في المعاملة”.

مؤسسة اقتصادية متجددة

يؤصل الباحث الاقتصادي أيمن عمر تاريخ الدكان كمؤسسة اقتصادية ذات أبعاد اجتماعية، فهي تعود إلى مرحلة من “التراث والتاريخ القديم الجميل للمجتمع اللبناني، إذ لم يكن الدكان لمجرد بيع السلع والمنتجات إلى أبناء الحي أو القرية، وإنما كان الدكان عبارة عن مؤسسة تظهر التلاحم الاجتماعي والتعاضد بين أبناء الحي الواحد والقرية الواحدة”.

يؤكد الدكتور عمر “صاحب الدكان كان هو المؤتمن على توفير السلع الضرورية لتلبية حاجات جيرانه والتكبد وحده عناء التنقل إلى أماكن بعيدة لشراء هذه الحاجات في زمن وسائل النقل البدائية وندرة توفر الاتصالات، ومن دون أن يستغل حاجات الناس لتحقيق الأرباح الخيالية بل كان يرضى بالربح المادي القليل في مقابل اعتقاده أنه يساعد أبناء منطقته على توفير سبل العيش”.

وتابع “كانت أسرار المنازل تكتنز في دفتر ديون الدكاكين، ومن المستحيل أن تخرج عن الدفتر لتفضح صاحبها، بل في معظم الأوقات تموت هذه الديون من قبل أصحاب الخير ومن دون علم المدين بذلك”.

من ناحية أخرى “كانت الدورة الحياتية لأبناء القرى والأحياء تتمحور حول الدكاكين، فكانت كل قرية أو حي له دورته الاقتصادية الخاصة به” بحسب عمر، الذي لاحظ بدء تلاشي هذه المؤسسة مع عصر العولمة والانفتاح والتطور في وسائل الاتصالات والمواصلات، قائلاً “أصبحنا أمام عصر المولات الضخمة والتنوع الهائل واللامتناهي في السلع الاستهلاكية”.

يجري كل ذلك وفق قانون ساي، الذي يعد أن “العرض يخلق الطلب عليه”، إضافة إلى تحول المجتمع إلى مجتمع استهلاكي لا حدود لرغباته الاستهلاكية مع تأمين أي سلعة كانت إلى منزل المستهلك مباشرة ومن دون عناء منه بخدمة توصيل مجانية أو شبه مجانية، وترافق ذلك مع ضخ إعلامي موجه برمج العقول على الاستهلاك، فأوجد حاجات جديدة لم تكن من قبل لتصريف هذا الكم الهائل من المنتجات الجديدة، بحسب الباحث الاقتصادي.

ولم تعد هذه العلاقة بين المشتري وصاحب المتجر هي علاقة الجيرة والتعاضد وكاتم أسرار المنازل والحريص على أبناء منطقته، بل أصبحت العلاقة مادية بامتياز تحكمها قواعد الرأسمالية المتوحشة اتي كرستها كتب الاقتصاد الجزئي (المايكرو)، وهي تقوم على أن توازن المنتج والمؤسسة هو بتحقيق أقصى ربح ممكن ومن دون أي اعتبار أخلاقي أو مجتمعي، وفي الوقت نفسه توازن المستهلك يتحقق عبر تحقيق أقصى منفعة أو أقصى إشباع ممكن، وبذلك ولد المستهلك النهم ليتمكن المنتح والبائع الشره من تحقيق الأرباح الضخمة.

كما يشير إلى أثر جائحة كورونا على الارتداد إلى الخلايا الصغيرة، فقد “جاءت كورونا لتعيد البشرية إلى فطرتها الأصيلة وإلى بساطتها، فعزلت الناس في بيوتها وأحيائها من جديد لتعود فكرة دكان الحي من جديد ولتؤكد أهمية الدكان ليس في الدورة الاقتصادية فحسب بل في الحياة المجتمعية ككل على حد تعبير دكتور أيمن عمر، ناهيك بأثر الأزمة الاقتصادية في لبنان في سلوك المستهلك، إذ بات يفضل البعض شراء السلع من دكان الحي القريب من المنزل، على التوجه إلى المتاجر العملاقة البعيدة، بهدف توفير البنزين وفاتورة استهلاك السيارة.

المصدر: بشير مصطفى -اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!